التعامل بجدية مع المحكمة الدستورية الألمانية

مارسيل فراتزشر

برلين ــ كان للقرار الذي اتخذته المحكمة الدستورية الاتحادية الألمانية ضد برنامج شراء الأصول الذي أطلقه البنك المركزي الأوروبي قبل الجائحة وقع الصدمة على صنّاع السياسات وغيرهم من المراقبين خارج ألمانيا. وسوف يستسلم كثيرون لإغراء تجاهل الحكم بالكامل، أو تصعيد المعركة القانونية مع المحكمة الدستورية الألمانية. لكن كلا النهجين سيخلفان نتائج هَـدّامة. الواقع أنَّ الموقف يستدعي إدارة مناقشة جادة حول تفويض البنك المركزي الأوروبي والمعاهدات الأوروبية القائمة.

على وجه التحديد، اتهمت المحكمة الدستورية الألمانية البنك المركزي الأوروبي بخرق معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي بعدم إجراء "تقييم التناسب" اللائق لبرنامج مشتريات القطاع العام. وترى المحكمة أنَّ برنامج مشتريات القطاع العام أكثر من مجرد أداة من أدوات السياسة النقدية. فهي تعدُّه سياسة اقتصادية أوسع فرضت تكاليف لا داعي لها على صِغار المدخرين، ودافعي الضرائب والقطاعات الفردية. وعلى هذا فإنَّ المحكمة الدستورية الألمانية تعتقد أنَّ البنك المركزي الأوروبي اقترب من خط تقديم التمويل النقدي المحظور لحكومات الدول الأعضاء أو تجاوزه بالفعل.

رغم أنَّ هذه ليست المرة الأولى التي تلاحق فيها المحكمة الدستورية الألمانية البنك المركزي الأوروبي، فإنَّ القرار الأخير يشكِّل بكل تأكيد تصعيداً للصراع. في غياب تقييم التناسب من جانب البنك المركزي الأوروبي، يصبح البنك المركزي الألماني محظوراً من المشاركة في برنامج مشتريات القطاع العام، مع العواقب البعيدة المدى المحتملة التي قد يخلفها ذلك على الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي.

الواقع أنَّ القرار ينطوي على كثير مما يستحق الانتقاد، وخاصة فشله في فهم اقتصاديات السياسة النقدية. في الواقع، يقوم البنك المركزي الأوروبي بإجراء تقييم منتظم وواسع النطاق للآثار المترتبة عل سياساته كلما نشر توقعاته ربع السنوية. علاوة على ذلك، من غير الممكن تحقيق استقرار الأسعار في اقتصاد حيث تبرأ الجميع من المدخرين، وازدهرت الشركات الحية الميتة، وانهار النظام المصرفي. ومن خلال مطالبة البنك المركزي الأوروبي بتقديم ذلك النوع من التقييم الذي تشترطه، تستفز المحكمة الدستورية الألمانية صِداماً خطيراً بين القانونين الأوروبي والألماني. وليس من المستغرب أن يصف العديد من خبراء الاقتصاد والباحثين القانونيين الحجج التي ساقتها المحكمة الدستورية الألمانية بأنها محض هراء.

مع ذلك، يتعيَّن على المؤسَّسات الأوروبية أن تتعامل بجدية مع التحدي الذي فرضته المحكمة الدستورية الألمانية، وإلا فقد يترتب على ذلك نتائج كارثية. بالنظر إلى أنَّ المحكمة الدستورية الألمانية أخذت على عاتقها لفترة طويلة مهمة تحدي سياسات البنك المركزي الأوروبي، فليس هناك من الأسباب ما يجعلنا نفترض أنها قد تتوقَّف عند هذا القرار الأخير. الأمر الأكثر أهمية أنَّ المرء لا يستطيع أن يتجاهل حقيقة مفادها أنَّ الحجج التي ساقتها المحكمة لاقت صدى لدى العديد من الاقتصاديين، والساسة، والناخبين الألمان. عبر التيار السائد في ألمانيا، هناك اقتناع عميق بأنَّ البنك المركزي الأوروبي لا يراعي مصلحة ألمانيا على الوجه الأمثل. وبشكل خاص، منذ اندلعت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، سارعت جوقة متنامية إلى انتقاد ليس فقط برنامج البنك المركزي الأوروبي لشراء السندات، بل وأيضاً سياسات سعر الفائدة والضمانات، بل وحتى نظام الدفع TARGET2.

أدت هذه المشاعر العامة المحتدمة إلى تآكل مصداقية البنك المركزي الأوروبي في ألمانيا على نحو مضطرد. وهذه ليست مشكلة يمكن تجاهلها. ذلك أنَّ الثقة والمصداقية من أكثر أصول أي بنك مركزي أهمية، وفي غيابهما لا يستطيع الوفاء بتفويضه. وعلى هذا، لم يعد بوسع الاتحاد الأوروبي وحكومات البلدان الأعضاء تجاهل المحكمة الدستورية الألمانية والدوائر الانتخابية التي تتحدث باسمها.

كخطوة أولى، يتعيَّن على البنك المركزي الأوروبي أن يفهم ماذا تتوقَّع منه المحكمة الدستورية الألمانية (وعامة الناس في ألمانيا). تشير شكوى المحكمة بأنَّ السياسات النقدية الحالية تفرض تكاليف على مجموعات بعينها إلى أنها لا تعتقد أنَّ استقرار الأسعار يجب أن يكون الهدف الأساسي للبنك المركزي الأوروبي. أي إنَّ المحكمة الدستورية الألمانية تطالب البنك المركزي الأوروبي في الأساس بملاحقة تفويض مختلف.

من المؤكد أنَّ المحكمة الدستورية الألمانية لا تملك سلطة المطالبة بمثل هذا التغيير. ولكن لتجنب أزمة أشد عمقاً، يحتاج البنك المركزي الأوروبي إلى إقناع الجمهور الألماني بأنَّ استقرار الأسعار هدفه الأساسي لسبب وجيه، وأنه لا يستطيع أن يقرر ببساطة تأديب حكومات بعينها أو تفضيل سياسات تعود بالفائدة على المدخرين والبنوك الألمانية. ولن تُـحَـل هذه المشكلة من خلال عملية مراجعة الاستراتيجية المعتادة التي يقوم بها البنك المركزي الأوروبي.

تعترض المحكمة الدستورية الألمانية أيضاً على عنصر تقاسم المخاطر المتأصل في جميع القرارات المتعلقة بسياسة البنك المركزي الأوروبي. سوف تخلف السياسة النقدية دوما عواقب تتعلق بالتوزيع داخل المجتمعات، وفي منطقة اليورو بين البلدان. لكن الرأي السائد في ألمانيا يتلخص في أنَّ سياسات البنك المركزي الأوروبي منذ عام 2008 كانت مصممة لمصلحة دول جنوب أوروبا الأضعف على حساب ألمانيا. ومرة أخرى، ربما يكون من المغري تجاهل هذه الحجة على أنها هراء (وهي هراء حقاً)، والإشارة إلى أن ألمانيا استفادت بقدر أي دولة أخرى من سياسات البنك المركزي الأوروبي على مدار العقد الماضي. لكن هذا لن يحل الصراع.

لقد تحمَّل البنك المركزي الأوروبي درجة غير عادية من المسؤولية عن الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمالي ــ أولا خلال أزمة 2008، ثمَّ أثناء أزمة الديون الأوروبية اللاحقة، والآن في الاستجابة لجائحة كوفيد-19. في وجود اتحاد مالي لائق وسوق رأسمالية مناسبة لتعزيز تقاسم المخاطر، يصبح من الممكن تضييق الفوارق داخل منطقة اليورو، مما يسمح للبنك المركزي الأوروبي بالتراجع عن شراء السندات السيادية وغير ذلك من التدخلات. لكن هذا لن يحدث في الأرجح في أوقت قريب، مما يعني أنَّ البنك المركزي الأوروبي يُـحـسِـن صنعاً بتعديل استراتيجيته.

ينبغي للبنك المركزي الأوروبي أن يعمل على مراجعة تعريفه لاستقرار الأسعار والطريقة التي يتبعها في تحليل الآثار المترتبة على السياسة النقدية، ليس لإرضاء المحكمة الألمانية، بل لتعزيز الشفافية. وفي الوقت الحالي على الأقل، من الممكن أن يساعد هذا على حماية استقلاليته التشغيلية والمؤسسية والقانونية. ولكن في الأمد البعيد، لا يمكن للاتحاد الأوروبي وحكومات البلدان الأعضاء تجاهل الموقف الألماني. فعلى الرغم من العديد من نقاط الضعف والتناقضات الخطيرة التي تعيب منطقها، فإنَّ المحكمة الدستورية الألمانية تثير قضايا مشروعة ومهمة تتعلق بتفويض البنك المركزي الأوروبي في ما يتصل بالسياسة النقدية والدور الذي يلعبه داخل الاتحاد النقدي الأوروبي.

في أفضل السيناريوهات، سوف يعتبر الاتحاد الأوروبي الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية الألمانية نداء إيقاظ للعمل نحو إقامة اتحاد مالي قادر على أداء وظيفته وسوق رأسمالية قابلة للحياة، وتوضيح دور البنك المركزي الأوروبي في كل منهما. وهذا يتطلَّب إجراء تغيير صعب للغاية في معاهدة الاتحاد الأوروبي. لكن البديل سيكون أسوأ كثيراً.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

مارسيل فراتزشر كبير مديري لدى البنك المركزي الأوروبي سابقاً، ويشغل حالياً منصب رئيس المؤسسة الفكرية "المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية في برلين"، وهو أستاذ الاقتصاد الكلي والتمويل في جامعة همبولت في برلين.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org