جائحة الـضَّـجَـر

راج بيرسود

لندن ــ بينما يجد الناس في مختلف أنحاء العالَم أنفسهم قيد الحبس بغرض السيطرة على جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19)، لا ينبغي لنا أن نغفل عن مصيبة أخرى كانت معدلات الإصابة بعدواها أعلى من أي فيروس. إنه الـضَّـجَـر، الذي تحوَّل الآن إلى تهديد صحي بالغ الخطورة.

تُـرى هل تكون الحال أننا كلما أصبحنا أكثر انشغالاً بالمخاطر البدنية التي يفرضها الفيروس، قللنا من شأن الأضرار العقلية الناجمة عن ذلك، على سبيل المثال، الحالات العاطفية السلبية مثل الضجر والـمَلل؟

يعتقد بعض المحللين النفسيين أنَّ الـمَـلل، إذا ترسَّخ، من الممكن أن يتحوّل إلى حالة عصبية تسمّى "alysosis". تاريخياً، ارتبط الضَّجر بالـمَلل في محل العمل. على النقيض من ذلك، تُـعَـدُّ جائحة الرتابة التي نواجهها اليوم شكلاً غير عادي من أشكال ما يسميه علماء النفس "مَـلل الفراغ".

لأنَّ كثيرين لم يواجهوا مثل هذا النوع من الـمَلل من قبل، فربما يكون تعاملهم معه أسوأ. الواقع أنَّ بعض التقارير ربطت بين الضجر الشديد ومجموعة من المشكلات، بما في ذلك المقامرة، والقيادة المتهورة، وإيذاء الذات، وإدمان الكحول، وتعاطي المخدرات، والاكتئاب، والانتحار، والذهان، والبارانويا، والانفعالية وحدة الطباع، والعدوانية، بل وحتى القتل.

في عام 2018، نشرت مجلة علوم الطب الشرعي تحقيقاً في الدوافع وراء جريمة قتل ارتكبها فَـتَيان في السادسة عشرة من عمرهما ضد زميل لهما في الفصل، الذي طَـعَـناه ثلاثين مرة. وخلص التقرير إلى أن الرغبة في التخفيف من الـمَلل والحاجة إلى الإثارة، والتي كانت واضحة في هذه الحالة، من العوامل المشتركة في مجموعة متنوعة من تجارب الترفية المشروعة المنحرفة.

إنَّ الـمَلل ليس من مجالات التحقيق الجديدة. في كتابه بعنوان "المسيح الدجال"، لاحظ الفيلسوف فريدريك نيتشه: "في مواجهة الضَّجَـر، حتى الآلهة تناضل سُـدى". وفي رواية "رسائل من العالم السفلي" أو "الرجل الصرصار"، كتب فيودور دوستويفسكي: "بالطبع الـمَلل قد يقودك إلى أي شيء. إنه الـمَلل الذي يغرس في أجساد الناس دبابيسه الذهبية، لكن كل هذا لا يهم كثيراً. المؤسف في الأمر حقاً (هذا تعليقي مرة أخرى)، هو أنني أستطيع أن أقول بجرأة إن الناس يصبحون بعد ذلك شاكرين لهذه الدبابيس الذهبية".

كَـشَـفَـت أحدث الأبحاث النفسية في الـمَلل عن ميل الضَّـجَـر والتبرم إلى دفع الناس إلى اختيارات سياسية متطرفة، والإفراط في المجازفة، والاندفاع. وإذا جرى استنساخ هذه النتائج في الأسر داخل بيوتها، حتى عندما تنحسر الجائحة الفيروسية، فربما نجد أنفسنا إزاء مشهد نفسي وسياسي متغير جوهرياً.

في عام 2016، نشر العالمان النفسيان ويجناند فان تيلبورج من جامعة إسكس، وإيريك إيجو من جامعة ليميريك، دراسة في المجلة الأوروبية لعلم النفس الاجتماعي بعنوان "اختيار التطرف السياسي في الاستجابة للـملل". يشير الباحثان إلى أنه كان من المعتقد سابقاً أنَّ "التهديدات الوجودية" تدفع الناخبين إلى تبني اختيارات سياسية متطرفة. على سبيل المثال، يحرص زعماء الدهماء الذين يؤكدون المخاطر التي يفرضها المجتمع على الأجانب وغيرهم من كباش الفداء، على إثارة الخوف في أنفس الناخبين. لكن تيلبورج وإيجو وجدا أن استحثاث الـمَلل والضجر بتكليف الناس بمهمة مُـمِـلة للغاية يُـفـضي إلى قدر كبير من الاستقطاب السياسي.

يذكر تيلبورج وإيجو في تقريرهما أنَّ أولئك الذين يتبنون آراء سياسية أكثر راديكالية يزعمون أنهم يتمتعون بفهم أعظم وأعمق للعالم، حتى وإن كانت تفسيراتهم مفرطة في التبسيط أو غير صحيحة. وعلى هذا فإنَّ سيكولوجية المأزق تدفعنا عندما نواجه تهديداً كبيراً إلى البحث عن اليقين والترابط، في حين يساعد الميل إلى الـضَـجَـر على تحفيز البحث عن المعنى في تفسير التحولات السياسية التي يحدثها.

تشير هذه الحجة إلى أن الجائحة الفيروسية الحالية تمثل "ضربة مزدوجة" تدفع العالم بقوة أكبر نحو التطرف السياسي. فإضافة إلى الحبس، والأعراض الشبيهة بأعراض الإنفلونزا، والوفيات، تفرض جائحة مرض فيروس كورونا 2019 أيضاً تهديداً وجودياً قوياً في هيئة ضَـجَـر جماعي.

في دراسة حديثة، توصلت جيليان ويلسون من جامعة نيو سكول إلى ذات النتائج التي توصَّل إليها تيلبورج وإيجو والتي مفادها أنَّ الـضَّـجَـر يدفع الناس إلى اختيارات سياسية متطرفة. لكنها وجدت أيضاً أنَّ الـمَلل يستحث التطرُّف بين المحافظين وليس الليبراليين.

ربما يكون من العواقب المثيرة للاهتمام المترتبة على هذا زيادة الدعم الانتخابي لقادة يمينيين من أمثال دونالد ترمب وبوريس جونسون، وهو ما قد يشجعهم على ملاحقة سياسات أكثر استبدادية. الواقع أن هذه الجائحة الفيروسية ربما تقودنا إلى دوامة سياسية من التعصب ــ على نطاق هائل.

وجدت دراسة حديثة أخرى نشرت في مجلة اتخاذ القرار السلوكي أنَّ الناس الميالين إلى الشعور بالضجر سجلوا زيادة في خوض المجازفات عبر مختلف المجالات، المالية، والأخلاقية، والترفيهية، والصحية، وتلك المتعلقة بالسلامة. اقترح البحث ــ الذي أجراه تيلبورج، وإيجو، وإيزنور كيليتش ــ أنَّ ارتفاع مستويات المخاطرة والمجازفة ربما يكون راجعاً إلى تآكل القدرة على ضبط النفس والذي يحدث في ظل الـمَلل. تزودنا دراسة أخرى نشرتها مجلة علم النفس الاجتماعي، والتي أجراها هذه المرة إيجو، وتيلبورج، وأندرو موينهان، بالمزيد من الأدلة التي تشير إلى ارتفاع مستويات خوض المجازفة والمخاطر.

ربما يمكننا أن نعدَّ هذا البحث تحذيراً من أن مطالبة الناس بالبقاء في بيوتهم والامتثال لقواعد مكافحة العدوى الأخرى ربما تأتي بنتائج عكسية إذا تسببت هذه التدابير في رفع مستويات الـمَلل والضَـجَر. ذلك أن من يشعرون بالـمَلل يصبحون أكثر ميلاً إلى الانخراط في سلوكيات محفوفة بالمخاطر، سواء بكسر القوانين والقواعد، أو المخاطرة بصحتهم.

سواء أدركنا أو لم ندرك، فإن أحد الأسباب الأساسية وراء ذهابنا في عطلات هو أن تغيير البيئة يعالج الـمَلل. لكننا محرومون من هذا العلاج في المستقبل المنظور. ولا يمكننا حتى تغيير المناظر بالخروج قدر ما نحتاج ــ أو ينبغي لنا. الواقع أن الحكام السلطويين والاستبداديين في مختلف أنحاء العالم ربما يشعرون بالابتهاج الشديد بالفعل بالدعم الذي قد يأتيهم قريباً.

ترجمة: إبراهيم محمد علي          Translated by: Ibrahim M. Ali

راج بيرسود طبيب نفسي مقيم في لندن، وهو المؤلف المشارك مع بيتر بروجين لكتاب "دليل الرجل المحنك إلى أفضل رعاية للصحة العقلية".

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org