صدمة كوفيد للدولار

ستيفن س روش

نيو هافن - إنَّ زمن هذه الجائحة يمضي بسرعة كبيرة، والكلام نفسه ينطبق على معدل العدوى لكوفيد-19 والجهود العلمية غير المسبوقة لإيجاد لقاح. كما ينطبق كذلك على التطورات الكبيرة والتي تجري حالياً في الاقتصادات المتأثرة بهذه الجائحة. لقد أدى الركود الناتج عن الإغلاق إلى وقف النشاط الاقتصادي العالمي تقريباً خلال شهرين فقط، وعليه فإنَّ العودة مجدداً إلى الانتعاش يحتاج إلى إحياء سريع للاقتصادات المحطمة.

قد لا يكون الأمر بهذه البساطة، حيث إنَّ الإيقاف المفاجئ - الذي عادة ما يرتبط بهروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة - يكشف غالباً مشكلات هيكلية متجذرة يمكن أن تعيق الانتعاش الاقتصادي، كما يمكن أيضاً أن تشعل تحركات مفاجئة في أسعار الأصول رداً على الكشف عن اختلالات كانت موجودة لفترة طويلة.

إنَّ هذا الكلام ينطبق على الاقتصاد الأمريكي المتأثر بالجائحة. فالاستجابة المالية الهجومية لصدمة كوفيد- 19 لن تمرَّ بدون عواقب خطيرة، وبعكس الاعتقاد السائد بأنَّ عجز الميزانية غير مهم بسبب أنَّ الفائدة التي تصل لصفر تقريباً ستخفِّف من أي زيادات في تكاليف خدمة الدين، فإنه في نهاية المطاف لا توجد أموال سحرية أو أشياء تأتي بالمجان. إن الإدخار المحلي الذي انخفض بالفعل يتجه للسالب، مما يعني أنَّ من المرجَّح أن يؤدي ذلك إلى عجز قياسي في الحساب الجاري وانهيار كبير في قيمة الدولار.

لا يستطيع أي بلد أن يبدد إمكانية الادخار فيه، والذي يعدُّ في نهاية المطاف أساس النمو الاقتصادي طويل المدى. وهذا الكلام ينطبق حتى على الولايات المتحدة الأمريكية، والتي غالباً ما يتم تجاهل قوانين الاقتصاد فيها تحت ستار "الاستثنائية الأمريكية".

للأسف لا شيء يستمر للأبد. فأزمة كوفيد-19 هي ضربة قوية على وجه الخصوص لبلد كان يعمل لفترة طويلة على هامش محدود جداً من الادخار المتدني.

لقد كان صافي معدل الادخار المحلي في أمريكا- مجموع الادخار المعدل حسب الاستهلاك للأسر والشركات والقطاع الحكومي- قبل الجائحة 1.4% فقط من الدخل الوطني، مما يعني تراجع ذلك المعدل إلى المستوى المتدني الذي كان عليه في فترة ما بعد الأزمة في أواخر سنة 2011.

إن هذا الكلام غير دقيق؛ فصافي معدل الادخار الوطني كان في المتوسط 7% خلال 45 سنة امتدت من سنة 1960 إلى 2005، وخلال فترة الستينيات من القرن الماضي والتي تعدُّ منذ فترة طويلة أقوى فترة من النمو الاقتصادي الأمريكي القائم على الإنتاجية خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية،كان صافي معدل الادخار في المتوسط 11.5%.

إن التعبير عن هذه الحسابات بالقيمة الصافية ليست تسوية بسيطة، وعلى الرغم من أن الادخار المحلي الإجمالي في الربع الأول من سنة 2020 وصل إلى 17.8% من الدخل الوطني، فإنه كان أيضاً أقل بكثير من النسبة الاعتيادية السائدة في الفترة من 1960 إلى 2005 وهي 21%، إلا أن النقص لم يكن حاداً مثل ذلك الذي تمَّ تسجيله بواسطة القياس بصافي النسبة، وهذا يعكس تطوراً مقلقاً آخر، وهو مخزون أمريكا الذي عفا عليه الزمن من رأس المال الإنتاجي.

وهنا يأتي الدور الذي يلعبه الحساب الجاري والدولار؛ فأمريكا التي تفتقد إلى المدخرات وتحتاج إلى الاستثمار والنمو، عادة ما تتجه إلى اقتراض المدخرات الفائضة من الخارج، مما يؤدي إلى حالة مزمنة من العجز في الحساب الجاري، وذلك من أجل اجتذاب رأس المال الأجنبي، وبفضل الامتياز المبالغ به للدولار الأمريكي كعملة الاحتياط المهيمنة في العالم فإنه عادة ما يتم تمويل هذا الاقتراض بشروط جذابة للغاية، وغالباً بدون تنازلات تتعلق بسعر الفائدة أو معدل الصرف، والتي لولا ذلك الامتياز لكانت هناك حاجة إلى تعويض المستثمرين الأجانب عن المخاطرة.

لقد كان ذلك هو الوضع السائد، أما الآن في زمن فيروس كورونا فإنه لم يعد هناك حكمة تقليدية.

لقد تحرَّك الكونغرس الأمريكي بسرعة غير مسبوقة لإنقاذ الموقف بعد أن اصبح الاقتصاد في حالة هبوط حر بطريقة غير مسبوقة. يتوقَّع مكتب الميزانية في الكونغرس حدوث عجز غير مسبوق في الميزانية الفيدرالية يصل بالمعدل إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020-2021. وعلى الرغم من الجدل السياسي المثير للجدل فإنَّ من المرجح اتخاذ إجراءات مالية إضافية، وكنتيجة لذلك فإنَّ صافي معدل الادخار المحلي سيندفع بشكل أكبر في الاتجاه السلبي. علماً أنَّ هذا حدث مرة واحدة فقط في السابق. فخلال الأزمة المالية العالمية 2008-2009، وبعدها مباشرة كان صافي الادخار الوطني بالمعدل هو 1.8% من الدخل الوطني وذلك من الربع الثاني من 2008 إلى الربع الثاني من 2010، بينما كان عجز الميزانية الفيدرالية بالمعدل هو 10% من الناتج المحلي الإجمالي.

من الممكن أن يهبط صافي معدل الادخار الوطني في حقبة كوفيد-19 ليصبح من 5% إلى -10% خلال سنتين أو ثلاث. وهذا يعني أن الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من نقص الادخار اليوم يتجه إلى تصفية جزئية كبيرة لصافي الادخار.

ومن المرجح أن الضغط غير المسبوق على الادخار المحلي، قد يؤدي كذلك إلى زيادة حاجة أمريكا لفائض رأس المال الأجنبي، مما يعني أن العجز في الحساب الجاري سوف يزيد بشكل حاد. علماً أنه منذ سنة 1982 فإنَّ هذا الاجراء العريض المتعلق بالتوازن الخارجي قد سجَّل عجزاً بمعدل 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي. إنَّ من الممكن أن يتجاوز العجز بكثير ذلك العجز القياسي المسجل في الربع الرابع من 2005 وهو 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا يطرح أحد أكبر التساؤلات التي تواجهنا: هل سيطالب المستثمرون الأجانب بتنازلات من أجل توفير زيادة كبيرة في رأس المال الأجنبي، وهو ما يحتاجه الاقتصاد الأمريكي الذي يفتقد للادخار؟

إن الجواب يعتمد بشكل كبير على ما إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستحقُّ الاحتفاظ بامتيازها المبالغ به. إن هذا ليس جدلاً جديداً؛ فالجديد فقط هو التسارع الزمني لأزمة كوفيد، والحكم قد يأتي عاجلاً وليس آجلاً.

إن أمريكا تقود الجهود لتبنّي الحمائية وإزالة العولمة وفك الارتباط. فحصتها من احتياطيات الصرف الأجنبي العالمية قد هبطت مما يزيد قليلاً عن 70% سنة 2000 إلى أقل قليلاً من 60% اليوم. فجهود احتواء كوفيد -19 في أمريكا باءت بفشل ذريع، كما أن تاريخ أمريكا من العنصرية الممنهجة وعنف الشرطة قد أدى إلى موجة غير مسبوقة من الاضطرابات المدنية. وعلى ضوء تلك الأحداث وخاصة عند مقارنتها بالاقتصادات الكبرى الأخرى، فإنَّ من المنطقي الاستنتاج أن مشكلات الادخار والاختلالات في الحساب الجاري قد تؤدي في نهاية المطاف إلى عواقب قابلة للتنفيذ بالنسبة للدولار و/أو معدلات الفائدة الأمريكية.

إلى الحد الذي تتأخر فيه إجراءات التعامل مع التضخم، ويحافظ الاحتياطي الفيدرالي على موقفه الاستثنائي المتعلق بالسياسة النقدية المتكيفة، فإنَّ الجزء الأكبر من التنازلات يجب أن يحدث من خلال العملة بدلاً من أسعار الفائدة، مما يعني أنني أتوقع انخفاضاً بنسبة 35% في مؤشر الدولار العريض خلال سنتين أو ثلاث.

إنَّ مثل هذا الانخفاض الضخم في الدولار والذي قد يبدو صادماً له سابقة تاريخية، فلقد هبط سعر الصرف الفعَّال الحقيقي للدولار بنسبة 33% بين سنتي 1970-1978 و33% بين 1985 و1988 و28% خلال الفترة من 2002-2011. ربما أن كوفيد-19 انطلق من الصين، ولكن يبدو أن صدمة العملة المرتبطة بكوفيد سوف تكون بصناعة أمريكية.

 

ستيفن ر روتش، عضو في هيئة التدريس في جامعة يال ومؤلف كتاب: فقدان التوازن: الاعتماد المتبادل بين أمريكا والصين.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org