اليوم الذي يأتي بعد الغد

هارولد جيمس

برينستون- لقد أصبح سؤال متى وكيفية الخروج من الاغلاق التام بسبب كوفيد-19 السؤال السياسي الرئيس في كل بلد متضرر ولقد ذهبت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بعيداً جداً عندما وصفت الجدل الذي يزداد احتداماً في هذا الخصوص على أنه "عربدة مناقشات" .

يوجد في قلب هذه المسألة السؤال المتعلق بكيفية توزيع التكاليف الاقتصادية والمالية المتزايدة والمرتبطة بهذه الأزمة. أن التشبيه التاريخي الأقرب هو فترة ما بين الحربين في القرن العشرين، والتي أعطتنا دورة سريعة في كيفية التعامل مع الظروف المالية الصعبة جداً.

لقد كانت الحرب العالمية الأولى مثل أزمة كوفيد-19 عملية طويلة الأمد حيث إنها استغرقت وقتاً أطول بكثير مما اعتقده الناس في البداية، ففي صيف سنة 2014 اعتقد الكثيرون أن تلك الحرب ستنتهي بحلول عيد الميلاد، وبالمثل في أوائل سنة 2020 كان كثير من الناس يأملون أن الإغلاق لفترة قصيرة سوف يوقف انتشار الفيروس بشكل تام، وفي كلتا الحالتين كان هناك سوء تقدير كبير في البداية فيما يتعلق بالصدمة الاقتصادية.

لقد أثارت الحرب العالمية الأولى نوعين مختلفين تماماً من الاستجابة على المستوى الوطني، وإن لم يكن ذلك واضحاً في البداية وكل استجابة أدت لحدوث تعطيل طويل المدى ولكن واحدة منهما كانت أكثر كارثية بكثير مقارنة بالاستجابة الأخرى.

لم تستطع أي من الدول المتحاربة أن تدفع للحشد العسكري الضخم من خلال فرض الضرائب فقط، مما يعني أنه قد تمَّ تمويل الحرب من خلال الاقتراض. وفي نهاية المطاف تمَّ تسييل الكثير من ذلك من قبل البنوك المركزية. لقد كان مثل هذا التصرف ضرورياً ومناسباً للتعامل مع هذه الحالة الطارئة، ولقد هنأ العاملون في البنوك المركزية أنفسهم على أسلوبهم العملي وشعورهم الوطني في وجه تلك الظروف المبررة.

لقد كان التأثير على الميزانيات متشابه نسبياً في تلك البلدان، وبحلول السنة الأخيرة من الحرب كانت حصة النفقات العسكرية من العجز نحو 70% في إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، و80% في فرنسا، وأكثر من 90% في ألمانيا. لقد كانت الزيادات في الأسعار في كل بلد من تلك البلدان متقاربة بشكل عام، حيث زادت عن الضعف ولكن لم يكن هناك تضخم كبير خارج روسيا.

لقد ظهرت الاختلافات الأكبر بعد الحرب، أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، اللتين كانتا تواجهان تكاليف خدمة الدين الضخمة بسبب مسؤولياتهما المترتبة على فترة الحرب، حاولتا العودة إلى الوضع الطبيعي بالسرعة الممكنة، ولقد كان ذلك يعني محاولة السعي للتوصل إلى ميزانية متوازنة وذلك من خلال زيادات كبيرة بالضرائب بما في ذلك معدلات ضريبة مرتفعة بشكل غير مسبوق على الأغنياء. إن هذه المقاربة – التجربة الأولى في العالم المعاصر للتقشف المتعمد- أدت إلى خنق الطلب وإلى ركود عميق بشكل استثنائي، وإن كان لفترة قصيرة.

على النقيض من ذلك، فإن ألمانيا المهزومة مثل جميع بلدان وسط أوروبا تقريباً، خشيت من الانكماش الحاد ومع شعور الناس بالإرهاق وفقدانهم للروح المعنوية بسب الصراع ونتائجه، لم تكن الحكومة تميل لفرض ضرائب جديدة. لقد تدارس صنّاع السياسات البرامج الاجتماعية اللازمة للمحافظة على السلام والنظام على المستوى المحلي، وعليه اعتمدوا على البنك المركزي لعمل التمويل واستمروا في الإنفاق بحرية على مدفوعات الرعاية الاجتماعية والتوظيف في القطاع العام.

بعكس المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، افترضت الحكومة الألمانية أن حالة الطوارئ بسبب الحرب لم تنتهِ، وأن السلام لم يكن سوى امتدادٍ  للصراع. واستمرت النقاشات المتعلقة بالسياسات والتي اشتملت على إجراءات الطوارئ والخطاب الراديكالي الذي تمَّ استخدامه لتبرير سياسات مماثلة خلال الحرب. بالطبع، فإنَّ استجابة السياسة الألمانية أدت في نهاية المطاف إلى التضخم المفرط وتفكك اجتماعي أكثر عمقاً بكثير في فترة لاحقة.

سوف يواجه صناّع السياسات اليوم إغراءً مماثلاً لتمديد حالة الطوارئ، وتأجيل الحساب النهائي وتوزيع التكاليف، وخاصة أنه من غير الواضح بعد كيف سيكون شكل نهاية أزمة كوفيد-19 وذلك نظراً لاحتمالية وقوع موجات متكررة من العدوى وذلك كما حصل في جائحة الإنفلونزا والتي بدأت في نهاية الحرب العالمية الأولى.

إضافة إلى ذلك، فإن الاستجابة للأزمة المالية العالمية سنة 2008 كانت بمثابة سابقة سيئة، وكما هي الحال مع أي حشد وقت الحرب، فلقد كانت هناك حاجة واضحة لأعمال طارئة للتعامل مع الأزمة المباشرة، ولكن الإحساس بمشاعر الهشاشة والضعف استمرَّ بعد زوال الحالة الطارئة بوقت طويل؛ وذلك بسبب أن العديد من البلدان لم تكن راغبة أو قادرة على السعي لتخفيض الدين من خلال عمليات الشطب، خوفاً من إثارة موجة جديدة من الاضطراب المالي.

وكما كان عليه الحال في أعقاب سنة 2008، فإن صنّاع السياسات ملتزمون اليوم بعمل "كل ما يلزم"، وعلى الرغم من أنَّ البنوك المركزية لديها القدرة على التعامل مع أزمة السيولة المباشرة، فإنَّ الجزء الصعب سيأتي عند توزيع التكاليف. إن تلك التكاليف لن تتضمن الزيادة في الإنفاق فحسب بسبب حالة الطوارئ الطبية، بل تتضمن أيضاً الخسائر التي تكبدتها الشركات المتأثرة بالإغلاق التام، ولو لم يتم إنقاذ الشركات الخاصة فإنَّ السؤال يتحول لمصير عمالهم. هل تصبح الإجراءات المؤقتة لتعويض فقدان الدخل لدى العمال الذين فقدوا وظائفهم من المظاهر الدائمة في دولة الرعاية؟ هل ستبدأ البلدان في تبني شكل ما من أشكال الحد الأدنى من الأجور العالمية أو دخل أساسي؟

لقد كانت فترة العشرينيات من القرن الماضي فترة تجربة السياسات الاجتماعية الراديكالية، ولقد كان الدرس من تلك الفترة أنه لا يمكن تمويل تلك البرامج من خلال الاستمرار وبكل بساطة في الإجراءات الطارئة، وحتى تتم استدامة تلك البرامج، يجب في نهاية المطاف أن يتم تسعيرها بشكل صحيح وتمويلها من خلال فرض الضرائب (أو في بعض الحالات بمساعدة الغاء الديون).

إنَّ من الواضح أنه عندما تتم مواجهة الطوارئ، يجب أن لا ينظر المرء للفاتورة، ولكن لا يستطيع المرء كذلك تجاهل ما الذي سيأتي بعد ذلك. إن أولئك الذين يطالبون الآن بنهاية فورية للإغلاق التام، عليهم الالتزام بالتحدث بصراحة وحرية عن كيفية توزيع التكاليف في المستقبل، وحتى الآن تمَّ تجنب هذا الجدل. إن تجربة فترة ما بين الحربين توحي بأن تجنب الأسئلة الصعبة هي وصفة كارثية.

هارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برنستون وزميل تنفيذي في مركز ابتكار الحوكمة العالمي.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org