مفارقة إزالة الكربون

كمال درويش وسيباستيان ستروس

واشنطن العاصمة- تحوي المناقاشات بشأن تغير المناخ رسالتين متناقضتين على ما يبدو. إذ تقول إحداهما أنه يكاد يكون مستحيلا إزالة الكاربون كلياً وبالسرعة الكافية للخفض من الاحتباس الحراري إلى ما دون درجتين مئويتين هذا القرن ، مقارنة مع مستويات ما قبل الصناعة. وتقول الأخرى أنه، بالنظر إلى ما هو على المحك، فإنَّ إزالة الكربون بهذه السرعة أمر لا مفرَّ منه.

ومن المفراقات أنَّ ما تقوله كلتا الرسالتين قد يكون صحيحاً؛ إذ يعد تحقيق اقتصاد خال من الانبعاثات بحلول عام 2050 ممكنًا من الناحية التقنية والاقتصادية باستخدام التقنيات التكنولولجية الحالية والناشئة، لكنها تتطلب تحولات جذرية في السلوك، واتخاذ إجراءات سياسية على نطاق واسع، بما في ذلك درجة من التعاون الدولي التي سيكون من الصعب جدا تحقيقها. فعلى الرغم من أنَّ التقدم التكنولوجي السريع يمكن أن يخفف من صعوبة بعض الحواجز الاجتماعية والسياسية أمام العمل المناخي، فإنَّ هذا الابتكار لن يوصل وحده العالم إلى مستوى صافي الصفر.

إنَّ المهمة شاقة جداً؛ إذ يقول فريق الأمم المتحدة الحكومي الدولي المعني بالمناخ، أن تحديد سقف الاحترار العالمي في1.5  درجة مئوية سيتطلب خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكاربون بنسبة%45  مقارنة مع مستويات2010  بحلول عام 2030، وإلى مستوى صافي الصفر بحلول عام 2050. وسيتطلب القيام بذلك تحولات سريعة وواسعة النطاق في أنظمة الطاقة والأراضي والمدن والبنية التحتية بما في ذلك النقل والمباني والصناعة، إضافة إلى إزالة ثاني أكسيد الكربون.

إن َّالحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكاربون ليس إلا جزءاً من المهمة. والجزء الحاسم منها هو ضرورة أن يخفض العالم إلى حد كبير من انبعاثات الملوثات السريعة الزوال مثل الميثان، حتى يحقق انخفاضا ًكبيراً في احترار القطب الشمالي وذوبان الجليد الدائم، اللذين يهددان بإطلاق المزيد من أكسيد النيتروز والميثان.

ورغم أنَّ أكثر من100  دولة تعهدت بأن تصبح محايدة للكاربون بحلول منتصف القرن، استمرت الانبعاثات العالمية في الارتفاع بوتيرة سريعة، ولم يوقفها سوى الركود الناجم عن الوباء. وفيما يتعلق بالتوجهات السابقة للوباء، يسير العالم على الطريق الصحيح لاستنفاذ ميزانيته المخصصة لإزالة للكربون بحلول عام 2035. إذ بالرغم من التحذيرات الملحة من العلماء، فإنَّ المفاوضات العالمية أخفقت بشأن المناخ لحد الساعة في مواكبة مستوى الطموح المطلوب لمواجهة التحدي، مما أدى إلى تشاؤم واسع النطاق بشأن قدرة البشرية على منع الكوارث المناخية.

ما الذي يفسر هذا التعايش بين التفاؤل القائم على التكنولوجيا وانتشار القلق؟ فعلى أي حال، يعد الانتقال إلى صافي الصفر من الانبعاثات ممكناً من الناحية التقنية، ومنخفض التكلفة إلى حد ما في عدد كبير من القطاعات. وتعدُّ مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح أقل الخيارات الطاقية تكلفة في جزء كبير من العالم، وستزيد تكلفتها انخفاضاً مع زيادة اعتمادها. وبالطبع، لأنَّ هذه المصادر متقطعة، فهي تتطلب بطاريات لتخفيف التقلبات. لكن البطاريات تتحسَّن وتنخفض تكلفتها يوماً بعد يوم، مما يتيح تحويل قطاعي النقل وتوليد الكهرباء إلى قطاعين صديقين للبيئة.

إنَّ أحد الأسباب وراء عدم كفاية العمل المناخي حتى الآن هو أنَّ تحويل قطاعي الكهرباء والنقل إلى قطاعين خاليين من الكربون يستلزم تكاليف أولية. وصحيح أنه قد يكون من الضروري على أيَّ حال دفع بعض تكاليف الاستبدال هذه عندما تفقد السيارات ومحطات الفحم ومحطات توليد الطاقة التي تعمل بالغاز صلاحيتها أو تتقادم. وفيما يتعلق بعدد محدود من التقنيات مثل الطاقة الشمسية، فقد تراجعت تكلفتها إلى حد كبير لدرجة أن اعتمادها سيعود بالنفع حتى على المدى القصير. وفي كثير من الأحيان، رغم ذلك، تكون لإزالة الكربون مكاسب على المدى الطويل فقط في عالم يتسم بقصر المدى.

والسبب الآخر وراء عدم اتخاذ أي إجراء هو أنَّ إجراء التحولات المراعية للبيئة سيكون لها آثار توزيعية كبيرة داخل البلدان وفيما بينها. فعلى المستوى الوطني، ستُخلق الملايين من الوظائف الجديدة، لكن ملايين أخرى ستضيع. وحتى لو كانت النتيجة زيادة صافية في الوظائف على مدى عقد من الزمن، فإن َّمن فقدوا وظائفهم سيبطئون عملية الانتقال مالم يتمكنوا من الحصول على تعويضات مناسبة ووظائف أخرى بسرعة.

وتكون مشكلة الانتقال هذه أكثر حدة في الدول النامية، التي ستكون في النهاية أفضل حالاً باستخدام التقنيات الصديقة للبيئة، لكنها تفتقر كما العادة إلى التمويل الطويل الأمد والحوافز لاعتمادها. والحل الممكن الوحيد هو أن تدعمَ الدول الغنية التحوُّل في البلدان النامية- بما في ذلك عن طريق بنوك التنمية المتعددة الأطراف. ومع ذلك، خلُص الخبير الاقتصادي ويليم بويت أخيراً إلى ما مفاده أنه "نظراً إلى أن َّهذا التضامن المالي المحلي مطلوب بالفعل، يبدو التضامن المالي العابر للحدود وكأنه عديم الجدوى. وأضاف أنه "مالم يتغيَّر هذا، وإلى أن يحدث ذلك، فإنَّ أزمة وجودية من صنعنا ستزداد سوءا ًليس إلا".

وبالفعل، يستدعي حجم التمويل الطويل الأمد المطلوب لتغطية التكاليف الأولية ومواجهة صعوبة التحديات التوزيعية تنسيقاً عالمياً وتماسكا ًمحلياً لم يسبق لهما مثيل حتى يصبح التحول الأخضر ممكنا من الناحية المالية والسياسية. وما يبعث بالسرور، أنه رغم أن َّالإمكانيتين التكنولوجية والسياسية لهما مستويات مختلفة، فإنهما مرتبطتان مع بعضهما البعض.

فعلى سبيل المثال، تخفض التقنيات الصديقة للبيئة التكاليف السياسية حتى تتمكن البلدان من اعتمادها، لأنَّ القيام بذلك يصب في مصلحتها الوطنية. وهذا هو السبب وراء استبدال الهند الطوعي والمفاجئ لمحطات الفحم بأخرى متجددة. وتعوض العوامل الخارجية الإيجابية من الابتكار التكنولوجي على الأقل جزئياً العوامل الخارجية السلبية التي يسببها المستفيدون بالمجان والمشكلات المتعلقة بالتنسيق. وهذا يجعل من المهم بالنسبة لصانعي السياسة ضمان حصول الدول الفقيرة على هذه التقنيات بتكلفة منخفضة.

ومع ذلك، رغم أنَّ التقدم الحاصل في مجال التكنولوجيا قد يجعل تحقيق الأهداف الطموحة في مجال المناخ أمراً معقولاً بصورة متزايدة، فإنها مازالت غير كافية لإيصالنا إلى خط النهاية. وبهذا المعنى، فالمنبهون على حق. إذ نظراً للمساهمات الحالية غير الكافية المحدَدة وطنيا بموجب اتفاقية باريس لعام 2015، فإنَّ أغلب الاحتمالات أن العالم لن يكون قادراً على إبقاء الاحترار العالمي في مستوى أقل من3  درجة مئوية بحلول نهاية هذا القرن، وسيشهد أحداثاً مناخية كارثية قبل ذلك بكثير.

ويمكن لصانعي السياسة حل التناقض الواضح بشأن ما يقال عن بالمناخ، ولكن فقط من خلال اتخاذ إجراءات سريعة على مستويات عدة. ولإثبات أنَّ المتشائمين على خطأ، يجب أن يكون التحوُّل الموجه نحو المناخ جزءاً من حزمة سياسية شاملة تتضمن تحولاً مالياً بعيد المدى، وأن يركز على المسائل المتعلقة بالتوزيع. ولهذا، إلى جانب التكنولوجيا الجديدة، يجب على الحكومات المساعدة على توجيه مبالغ هائلة من المدخرات نحو استثمار طويل الأمد، وأن تظهر التزاما ًسياسياً غير مسبوق لتحقيق الإنصاف على المستوى المحلي والدولي. وفقط حينها، سيصبح تحقيق المستحيل أمراً لا مفرَّ منه.

ترجمة: نعيمة أبروش  Translated by Naaima Abarouch

 شغل كمال درويش سابقاً منصب وزير الشؤون الاقتصادية في تركيا ومنصب مسؤول عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويشغل حالياً منصب زميل أول في معهد بروكينز. ويشغل سيباستيان ستروس منصب كبير محللي ومنسقي الأبحاث في قسم المشاركات الاستراتيجية في معهد بروكينز.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021
www.project-syndicate.org