ألم نَـرَ هذا الفيروس من قبل؟
دومينيك مويسي
باريس ــ تعمل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19 COVID-19) على تسريع ثلاثة اتجاهات جيوسياسية أساسية: صعود آسيا، واضمحلال الولايات المتحدة، ورسوخ قوة ألمانيا داخل أوروبا. وربما تعطينا هذه التحولات مجتمعة تصوراً مسبقاً للعالَـم في عام 2030. ولكن قبل ذلك، يتعيَّن على القادة السياسيين أن يتغلبوا أولاً على الأزمة الحالية ــ وأن يمتنعوا عن تكرار الأخطاء الكارثية التي ارتُـكِـبَت قبل قرن من الزمن.
اليوم، يبدو أنَّ المستقبل والماضي يتصادمان. فالآن بعد أن دَفَـعَـت جائحة كوفيد-19 بوحشية قسماً كبيراً من العالَـم إلى الاقتصاد الرقمي، لن يرغب كثير من الناس في العودة إلى عالَـم ما قبل الجائحة وكأن ما نشهده الآن مجرد ومضة سريعة ذهبت لحال سبيلها.
إنَّ الفيروس لا يعني نهاية العولمة، لكنه ربما يكون نذير شؤم لمجموعة بعينها من أشكال العولمة. على سبيل المثال، هل يظل القادة راغبين في حضور الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس والاختلاط مع حشد كبير من الأقران، بدلاً من التواصل عن طريق الشبكات على النحو الذي يحترم معايير التباعد الاجتماعي في مواجهة فيروس قاتل؟
لكن في المقام الأول من الأهمية، تؤكد الجائحة على صعود آسيا ــ وليس الصين فقط ــ واضمحلال الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
على الرغم من كونها القوة العسكرية الأشد جبروتاً في العالَـم، أصبحت أميركا منزوعة السلاح على نحو استثنائي غريب عندما واجهت فيروس كورونا المستجد. لقد عجز نظام الرعاية الصحية في أميركا عن التعامل مع حجم الجائحة (وإن لم تكن الولايات المتحدة وحدها في هذا الصدد)، في حين استحضر مشهد الطوابير الطويلة من الأشخاص الذين ينتظرون في صبر الحصول على معونات الطعام صوراً من أزمة الكساد العظيم التي اندلعت قبل الصفقة الجديدة. وتسبب قادة أميركا السياسيون، الأشبه بصور كاريكاتورية للوحشية والانتهازية، في زيادة الأمور سوءاً ببساطة، مما زاد من تشويه وتلطيخ صورة البلاد الدولية في هذه العملية.
صحيح أن أميركا ربما تستعيد جزءاً من كرامتها وإنسانيتها بإسقاط الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني. لكن هذا يتطلب أن يتوحد الديمقراطيون خلف مرشحهم المحتمل جو بايدن، كما أَكَّـد الرئيس السابق باراك أوباما عندما أعلن تأييده له أخيراً.
الواقع أنَّ بايدن يتمتع بفرصة حقيقة للفوز. فربما يقرر الناخبون الأميركيون معاقبة الجمهوريين بسبب استجابتهم المتخبطة للجائحة وما نجم عن ذلك من دمار اقتصادي، تماماً كما كافأ الناخبون في كوريا الجنوبية أخيراً حزب الرئيس مون جيه إن الحاكم بأغلبية برلمانية مطلقة، بعد الجهود الناجحة حتى الآن التي بذلتها إدارته لاحتواء فيروس كورونا. ولكن حتى لو هُـزِم ترامب، فلن تستعيد أميركا موقعها العالمي المركزي الذي ظلت تحتله سابقاً طوال ثلاثة أرباع قرن من الزمن.
لكن اضمحلال أميركا لا يعني أنَّ الصين ستحمل الشعلة العالمية. فقد كشفت جائحة كوفيد-19 بذات القدر من القسوة عن عيوب الصين، بما في ذلك افتقار حكومتها إلى الشفافية. لقد تسببت الفاشية الـمَـرَضية هناك في إشعال شرارة انهيار اقتصادي درامي في الربع الأول من العام 2020، ولا تزال الصين عُـرضة لموجة ثانية من الوباء. ويشير كل هذا إلى أنَّ العالَـم ربما أصبح بلا أقطاب، بدلاً من كونه ثنائي القطبية.
علاوة على ذلك، لا تستطيع روسيا ولا الاتحاد الأوروبي التظاهر بشغل الفراغ عند القمة. فمثلها كمثل إيران وتركيا، ربما تخرج روسيا من الأزمة وقد أصبحت أشد ضعفاً. في الواقع، ربما تكون تخوفات الرئيس فلاديمير بوتن من جائحة كوفيد-19 أعظم كثيراً من خشيته من أحزاب المعارضة المستضعفة في روسيا.
وماذا عن أوروبا؟ بعد استجابة أولية ملتبسة حائرة للغاية للجائحة ــ إذا استخدمنا عبارة ملطفة ــ يبدو أن الاتحاد الأوروبي بدأ يستعيد بعض نفوذه بفضل الثلاثي من القيادات النسائية: المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد. لكن الأزمة أظهرت في الأساس قوة ألمانيا وليس قدرة أوروبا على الصمود.
على الرغم من كونها الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في أوروبا، سجلت ألمانيا عدد وفيات أقل بأربع مرات على الأقل من نظيراتها الرئيسة في الاتحاد الأوروبي، في حين تتمتع ميركل، التي كانت حتى وقت قريب تعدُّ على نطاق واسع زعيمة بلا صلاحيات اقتربت من نهاية ولايتها، بمستويات ثقة أعلى كثيراً من أي زعيم أوروبي آخر. لقد أثبتت ميركل أن السياسي من الممكن أن يتبع غرائزه الأخلاقية ــ كما فعلت عندما فتحت حدود ألمانيا للمهاجرين في عام 2015 ــ ويـظَـل يُـنـظَـر إليه بعد مرور خمس سنوات على أنه الحماية الأفضل ضد الخوف وعدم اليقين.
إذا كان التاريخ يتسارع حقاً نتيجة لجائحة كوفيد-19، فلا يزال من الواجب علينا أن ننظر إلى الماضي لاستخلاص الدروس الصحيحة. والسنة المحورية في هذا الصدد هي 1920.
قبل قرن كامل من الزمن، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وبعد جائحة الإنفلونزا الإسبانية المدمرة مباشرة، أثبت القادة السياسيون عجزهم عن إيجاد الإجابات الصحيحة للتحديات الضخمة التي واجهتهم. ونتيجة لهذا، انزلق العالَم أولاً إلى أزمة الكساد العظيم ثمَّ إلى الحرب العالمية الثانية.
يواجه القادة اليوم تحديات مختلفة لكنها مروعة بذات القدر. إذ يتعين عليهم بشكل خاص أن يعملوا على إيجاد توازن دقيق، ليس فقط بين حماية أرواح مواطنيهم وإعادة تشغيل الاقتصاد، بل وأيضاً بين الحرية والأمن.
إذا أفرطت الحكومات في إعطاء الأولوية للاقتصاد على الصحة العامة، فإنها بذلك تجازف بالتسبب في اندلاع موجة ثانية من جائحة كوفيد-19 والتي ستخلف عواقب مدمرة على كل من الاقتصاد والصحة العامة. على نحو مماثل، إذا ناصرت الحكومات الحرية قبل أي شيء آخر، وتجاهلت مساهمة تكنولوجيات تتبع المخالطين في ترويض الجائحة في آسيا، فإنها بهذا تجازف بالسماح بقدوم قوى سياسية أقل حصافة واعتدالاً ذات يوم ربما تطبق مبادئ التحرر بوحشية وتجاهل تام للصالح العام.
في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، أسهم مبدأ الـمسالَمة الذي تولَّد عن حرب رهيبة في انتصار الفاشية والانزلاق إلى صراع عالمي أشد ترويعاً. واليوم، لا يجوز لنا أبداً أن نسمح لجشع اقتصادي أو نزعة ليبرتارية (تحررية) بـجَرِّنا إلى مسار كارثي بذات القدر.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
دومينيك مويسي مستشار خاص لدى معهد مونتين في باريس.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org