المرحلة الثانية للاستجابة الوبائية
جان بيساني فيري
باريس ـ قبل اثنتي عشرة سنة، كانت استجابة الحكومات في الاقتصادات الكبرى حول العالم للأزمة المالية سريعة وفعَّالة: فقد تمَّ تأميم البنوك المُتعثرة، وأضحت السياسة النقدية فعَّالة للغاية، وتمَّ تقديم دعم مالي هائل، وكان التنسيق العالمي مُكثفاً.
ومع ذلك، تمَّ ارتكاب أخطاء فادحة، والتي نشأت عنها عواقب تدريجية. الفشل في معاقبة المسؤولين عن الانهيار المالي مهَّد الطريق لصعود الشعبوية في السنوات الأخيرة. لقد شهد الاقتصاد الأوروبي تحديات مُستمرة، وذلك بسبب تجاهل الأزمات المصرفية لفترة طويلة مع سحب الدعم المالي في وقت مبكر للغاية. لقد خلف ذلك آثاراً اجتماعية واقتصادية وسياسية حادة ظلَّت واضحة عند اندلاع أزمة وباء كوفيد 19. هل سيتم تجنُّب نمط مُشابه؟ مع بدء الفصل الثاني من أزمة الوباء، فإنَّ هذا يُعدُّ سؤالاً حاسماً.
لقد بات التفاوت الكبير في تأثير الوباء في البلدان واضحاً بالفعل. الاختلافات مُحيرة: سجَّلت المملكة المتحدة 650 حالة وفاة لكل مليون نسمة، في حين أنَّ معدل الوفيات في كوريا الجنوبية لكل مليون بلغ خمس حالات وفاة فقط. وبالمثل، فإنَّ معدل الوفيات في الاتحاد الأوروبي أكبر بمئات المرات في البلدان الأكثر تضرراً منها في البلدان الأكثر حماية.
تعكس هذه الفجوات جزئياً الحظ المُطلق: في حين انتشر الفيروس تحت الرادار في إيطاليا، فقد علمت دول شمال شرق أوروبا بقدومه وكان بإمكانها الاستعداد لمواجهته. تنبع هذه الفجوات أيضاً من الفعالية المُتفاوتة لسياسات الصحة العامة. في هذا الصدد، من المرجَّح أن يضع الترتيب النهائي شرق آسيا في المُقدمة على أي جهة أخرى، وألمانيا متقدمة على بقية أوروبا، والولايات المتحدة في أسفل قائمة الدول المتقدمة، والبرازيل والهند خلف بعض الدول الأقل تقدماً. إنَّ الغضب من الدول التي فشلت في حماية شعوبها سيكون عاملاً رئيساً في تشكيل التطورات السياسية المستقبلية.
أثبتت تدابير الإغلاق الصارمة فاعليتها، ولكنها مُكلفة من الناحية الاقتصادية: تبيَّن أنَّ تشديد الإجراءات الإدارية هو مؤشر جيد جداً لخسائر الناتج في النصف الأول من العام. تُشكل الفوارق الدقيقة أيضاً أهمية كبيرة. ولأنَّ استجابتها أثبتت أنها لا مركزية وأكثر قابلية على التكيف، نجحت ألمانيا في الحد من التكاليف الاقتصادية الناتجة عن احتواء الفيروس. أظهرت استراتيجيتها الجانب المشرق من الفيدرالية (تُجسد الولايات المتحدة الجانب المظلم).
كانت الاستجابات المالية مُتجانسة بشكل ملحوظ في جميع أنحاء أوروبا، حيث نفذت الحكومات خُطط ضمان الائتمان التي ساعدت الشركات في الحصول على السيولة، إلى جانب تدابير أخرى للحفاظ على الوظائف حيث تحمَّلت الدولة تكاليف رواتب الموظفين المُسرحين. أثبتت هذه الخطط سرعتها وفعاليتها: فقد تمَّ إنقاذ الشركات من الإفلاس، وتمَّ الحفاظ على علاقات العمل، فضلاً عن حماية دخل الأسر.
في الولايات المتحدة، على النقيض من ذلك، تمَّ تسريح الموظفين بشكل جماعي، وعرفت معدلات البطالة ارتفاعاً ملحوظاً. على الرغم من فاعليتها، فإنَّ الحوافز المُضافة مثل إعانات البطالة، والإعفاءات الضريبية للأسر، والمنح المُقدمة للشركات الصغيرة الحجم التي تعمل على إعادة تعيين الموظفين بعد الإغلاق لم تمنع حدوث أزمة اقتصادية. بشكل عام، فإنَّ المقارنة بفرنسا تُظهر أنَّ تكاليف تخفيف التداعيات الاقتصادية الناتجة عن الوباء كانت أعلى بنسبة 50٪، وأنَّ الحد منها كان أكبر بكثير في الولايات المتحدة. لذلك، يجب الثناء على دولة الرفاه الأوروبية.
عندما يتم الحد من انتشار الوباء، يجب التركيز بشكل متزايد على وتيرة وقوة الانتعاش الاقتصادي. تُشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وصندوق النقد الدولي إلى أنَّ إيطاليا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة تضرَّرت بشدة من تداعيات انتشار الوباء. في الواقع، لقد بدأت اقتصاداتها في الانتعاش، ولكن ما هو حجم الناتج المفقود الذي سيتمكنون من استعادته؟ بعد الأزمة المالية العالمية، استغرقت إسبانيا ثماني سنوات للعودة إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي قبل الأزمة، ولم يحدث ذلك بعد في إيطاليا واليونان. يكمن الخطر الآن في المزيد من العجز في جنوب أوروبا.
لتجنُّب الضرر الدائم، فإنَّ الأولوية القصوى تتمثَّل في دعم الانتعاش المُستمر طالما كان ذلك ضرورياً. إنَّ خطر فائض الدين العام حقيقي للغاية، ولكن الانكماش الاقتصادي أشد خطورة - بما في ذلك من الناحية المالية. إنَّ العجز في الوقت الراهن غير مُكلف على المدى القصير (لكن من المحتمل أن يكون مكلفاً على المدى الطويل، ولهذا السبب يجب إدارة الشؤون المالية العامة بشكل مسؤول). لا يزال هناك مجال مالي. يجب استخدامه بحكمة، ولكن يتعين أولاً استخدامه. يجب على الحكومات أن تستمر في لعب دور الملاذ الأخير.
مع ذلك، لن تنجح سياسات جانب الطلب وحدها في تحقيق هذه الغاية. تتمثَّل الأولوية الثانية في منع حدوث موجة من الإفلاس. لقد تضرَّرت العديد من الشركات بشدة بفعل انتشار الوباء. رغم تسديد تكاليف الرواتب، لا يزال يتعين عليها تحمُّل بعض التكاليف الثابتة، فقد كان توفير السيولة حلاً مفيداً، ولكنه ليس فعالاً.
لذلك، يتعين إيجاد الحلول لدعم الشركات القابلة للاستمرار والمُثقلة بالديون. ستكون العديد منها في وضع صعب حيث تُهدد الإجراءات القانونية العادية بتعطيل أنظمة المحاكم.
لتجنب هذا السيناريو، ينبغي للحكومات إنشاء آليات لإعادة هيكلة الديون على نطاق واسع. جعلت التأجيلات الضريبية وخطط ضمان التأمين الحكومات دائنة لعدد كبير من الشركات الصغيرة الحجم. في مقال بالمشاركة مع أوليفييه بلانشارد من معهد بيترسون وتوماس فيليبون من جامعة نيويورك، نقترح إبلاغ الدائنين من القطاع الخاص - البنوك في المقام الأول - بأنَّ الحكومات ستدعم قرارات إعادة هيكلة ديون الشركات القابلة للاستمرار وستشارك في إعادة جدولة أو الإعفاء من الديون القائمة. نظراً إلى أن الحكومات تقدر التأثير الإيجابي لاستمرار الشركات على جميع أنواع أصحاب المصلحة، فينبغي لها أن تعلم أنها ستضيف "علاوة استمرار" إلى كل ما يقوم به الدائنون من القطاع الخاص. هذا من شأنه أن يُحافظ على المزيد من الوظائف.
وبالمثل، على الحكومات أيضاً أن تساعد على معالجة عواقب نقص الإنتاجية. تؤثر المعايير الصحية بشكل خطير في ربحية بعض القطاعات. على سبيل المثال، تستقبل المطاعم اليوم عدداً أقل من الزبائن مع الحفاظ على نفس العدد تقريباً من الموظفين؛ كما يجب على القاعات الرياضية في الوقت الحاضر تعيين موظفين إضافيين للتنظيف. وهذا يجعلها أقل ربحية مؤقتاً، مما يؤدي بها إلى الإغلاق أو تسريح الموظفين. للحد من تأثير النقص في الإنتاجية، اقترحت أنا وبلانشارد وفيليبون تقديم دعم مؤقت للأجور. مرة أخرى، قد يساعد ذلك في الحفاظ على فرص العمل في الوقت الذي يُهدد فيه الارتفاع الهائل في معدلات البطالة بجعل عملية إعادة توزيع الوظائف غير فعالة.
لقد نجحنا في تجاوز أصعب مرحلة للوباء، على الأقل في أوروبا، ومن المرجح أن تظلَّ الأخبار جيدة في الأسابيع المقبلة. من خلال توفير التأمين للموظفين والشركات، قامت الحكومات بعملها على أكمل وجه حتى الآن. لكن هذه كانت الخطوة الأولى فقط. من الضروري أن تحافظ على الدعم الاقتصادي طالما كان ذلك ضرورياً وأن تتخذ إجراءات جديدة لاحتواء الضرر الدائم.
جان بيساني-فيري، كبير زملاء مركز أبحاث بروجل في بروكسل وكبير زملاء غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، ويشغل كرسي توماسو بادوا شيوبا في معهد الجامعة الأوروبية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org