سياسة اللقاح ضد وباء كوفيد 19

ريتشارد ن. هاس

نيويورك ـ في الواقع، تُعدُّ الخسائر العالمية الناجمة عن انتشار وباء كوفيد 19 هائلة: فقد أودى بحياة أكثر من نصف مليون شخص، وأصبح مئات الملايين من الأشخاص عاطلين عن العمل، وتسبَّب في تدمير تريليونات الدولارات من الثروة. المرض لم ينتهِ بأيِّ حال من الأحوال. وقد يتسبَّب في وفاة مئات الآلاف من الناس مُستقبلاً.

ليس من المستغرب أن يكون هناك اهتمام كبير بتطوير لقاح، حيث يتمُّ إجراء أكثر من مائة تجربة في مختلف أنحاء العالم. تبدو العديد منها واعدة، وقد يؤتي لقاح واحد أو أكثر ثماره -  يستغرق عادة إنتاج لقاح بضع سنوات أو أكثر.

ولكن حتى في حالة ظهور لقاح واحد أو أكثر، والذي يضمن أن يجعل الناس أقلَّ عرضة للإصابة بفيروس كورونا المُستجد، فلن يتمَّ القضاء على مشكلة الصحة العامة. وكما سيشهد أي خبير طبي، فإن اللقاحات ليست علاجاً سحرياً. إنها مجرد أداة في الترسانة الطبية.

من غير المُتوقع أن يُنتج أي لقاح مناعة كاملة أو دائمة لدى كل من يحصل عليه. سيرفض ملايين الناس الحصول على التلقيح. وهناك حقيقة مُؤلمة مفادها أنَّ هناك ما يقرب من ثمانية مليارات من الرجال والنساء والأطفال على هذا الكوكب. قد يستغرق تصنيع ثمانية مليارات جرعة (أو الضعف إذا كانت هناك حاجة لأكثر من جرعة واحدة) من لقاح واحد أو أكثر وتوزيعها في جميع أنحاء العالم سنوات، وليس شهوراً.

هذه كلها أمور تتعلق بالعلم والتصنيع والخدمات اللوجستية. من المؤكد أنها ستكون صعبة للغاية. لكن السياسة ستكون مُعقدة على نحو مُماثل.

بداية، من سيدفع مقابل اللقاح؟ تتوقع الشركات استرداد استثماراتها في البحث والتطوير، فضلاً عن تكاليف الإنتاج والتوزيع. هذا يُمثِّل بالفعل عشرات المليارات من الدولارات (وربما أكثر من ذلك بكثير) - حتى قبل طرح مسألة الربح. هناك أيضاً السؤال المتعلق بكيفية تعويض الشركات التي تُطور لقاحاً إذا كان مطلوباً منها ترخيص براءات الاختراع والدراية للمنتجين في دول أخرى.

ومع ذلك، القضية السياسية الأصعب تتعلق بإمكانية الوصول إلى لقاح. من الذي يجب أن يتلقى الجرعات الأولية للقاح؟ من يحدد من يحصل على مكان في قائمة المُستفيدين وبأي ترتيب؟ ما هي المزايا الخاصة التي تعود على البلد حيث يتم تطوير اللقاح؟ إلى أي مدى ستتسبب الدول الغنية في استبعاد البلدان الفقيرة؟ هل ستسمح البلدان بالتدخل الجيوسياسي وتتقاسم اللقاح مع الأصدقاء والحلفاء بينما تستبعد السكان الضعفاء في البلدان المُعادية؟

على المستوى الوطني، يتعيَّن على جميع الحكومات النظر إلى كيفية توزيع تلك اللقاحات التي تنتجها أو تتلقاها. تتمثل إحدى الأفكار في توجيهها أولاً للعاملين في مجال الرعاية الصحية، يليهم رجال الشرطة ورجال الإطفاء والجيش والمُعلمين وغيرهم من العاملين الأساسيين. يجب على الحكومات أيضاً أن تنظر في الأولوية التي يجب إعطاؤها لمن هم أكثر عرضة لخطر الإصابة بمضاعفات خطيرة لفيروس كورونا، مثل كبار السن والذين يعانون من أمراض مُزمنة. هل يجب أن يكون اللقاح مجانياً لبعض الأشخاص أو للجميع؟

على الصعيد الدولي، يبدو الوضع أكثر تعقيداً. نحن في حاجة إلى ضمان إمكانية زيادة الإنتاج بسرعة، ووضع القواعد اللازمة لضمان توافره، والتعهد بتقديم مساعدات مالية كافية لتغطية احتياجات الدول الفقيرة. وقد عمل كلٌّ من التحالف العالمي للقاحات والتحصين "جافي" ومنظمة الصحة العالمية والعديد من الحكومات ومؤسسة بيل وميليندا غيتس الخيرية على تشكيل مرفق الوصول العالمي للقاح فعّال ضد فيروس كورونا المُستجد "كوفاكس". يقترح المُنتجون أن يتمَّ التعامل مع أي لقاح فعّال يظهر باعتباره منفعة عامة عالمية، وأن يتمَّ توزيعه بالتساوي في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن مكان اختراعه أو قدرة أي بلد على الدفع. وقد طرحت منظمة الصحة العالمية إطاراً لتوزيع عالمي يسعى لضمان منح الأولوية للسكان الأكثر ضعفاً والعاملين في مجال الرعاية الصحية.

لكن هذه الاستراتيجيات قد تكون غير واقعية. لا يقتصر الأمر على أنَّ الجهود المبذولة لتشكيل مرفق الوصول العالمي للقاح فعّال ضد فيروس كورونا تفتقر إلى التمويل الكافي، ومشاركة الولايات المتحدة والصين، والسلطة الواضحة. بل من المُرجح أن تتعرض جميع الحكومات لضغوط هائلة لرعاية مواطنيها أولاً. من شبه المؤكد أن تتغلب النزعة القومية الناتجة عن تطوير اللقاح على نظام متعدد الأطراف لاستخدام اللقاح.

يُعزز التاريخ الحديث هذه الشكوك. ظهر فيروس كورونا المُستجد أول مرة في الصين وسرعان ما أصبح مشكلة عالمية. ومع ذلك، كانت الاستجابات في الغالب على أسس وطنية. حقَّقت بعض البلدان أداءً جيداً نسبياً، وذلك بفضل أنظمة الصحة العامة القائمة وقيادتها السياسية، بينما حدث العكس تماماً في بعض الدول الأخرى.

على الصعيد الوطني، يُعدُّ استمرار هذا النهج لتطوير لقاح وصفة لكارثة. لن يتمكَّن سوى عدد قليل من البلدان من إنتاج لقاحات قابلة للتطبيق. يجب أن يكون النهج عالمياً، ليس لأسباب أخلاقية وإنسانية فحسب، بل لأسباب اقتصادية واستراتيجية أيضاً، لأنَّ الانتعاش العالمي يتطلَّب تحسناً جماعياً.

في العراق، حين فاق التقدم العسكري التخطيط لما بعد الحرب التي قادتها الولايات المتحدة، كانت النتيجة عبارة عن فوضى، أو ما يمكن اعتباره "نجاحاً كارثياً". لا يمكننا تحمُّل نتائج مماثلة في هذه الحالة، حيث يتجاوز النجاح في المختبر التخطيط لما سيأتي بعد ذلك. يتعين على الحكومات والشركات والمنظمات غير الحكومية أن تجتمع بسرعة، سواء كان ذلك في مبادرة لتشكيل مرفق الوصول العالمي للقاح فعّال ضد فيروس كورونا، أو تحت رعاية الأمم المتحدة أو مجموعة العشرين، أو في مكان آخر. أخذت الحوكمة جميع الأشكال والأحجام على المستوى العالمي. الأمر الأساسي هو أنها موجودة. إنَّ حياة الملايين من الناس، والرفاه الاقتصادي الذي قد يبلغ المليارات، والاستقرار الاجتماعي في كل مكان، كل ذلك معرض للخطر.

 

ريتشارد ن. هاس هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب "العالم: مقدمة موجزة".

 

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org