العقد الاجتماعي الواجب بعد الجائحة
داني رودريك، ستيفاني ستانتشيفا
كمبريدج ــ تسببت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في استفحال خطوط الصدع العميقة في الاقتصاد العالمي، مما كشف بشكل صارخ عن الانقسامات وأشكال التفاوت في عالمنا الحالي. كما أدت إلى تكاثر وتضخيم أصوات المنادين بإصلاحات بعيدة المدى. وعندما تصدر حتى مجموعة دافوس نداءات من أجل "إعادة ضبط شاملة للرأسمالية"، فلا بدَّ أن تدرك أنَّ تغيرات تجري على قدم وساق بالفعل.
لا يخلو الأمر من بعض المواضيع المشتركة التي تمر عبر أجندات السياسات المقترحة حديثا: لإعداد القوى العاملة للتكنولوجيات الجديدة، يتعين على الحكومات أن تعمل على تعزيز برامج التعليم والتدريب، ودمجها على نحو أفضل مع متطلبات سوق العمل. ولا بدَّ من تحسين سبل الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وخاصة للعاملين في اقتصاد العمل المؤقت وترتيبات العمل غير الاعتيادية.
بشكل أكثر عموماً، يشير تدهور قوة المساومة العمالية في العقود الأخيرة إلى الاحتياج إلى أشكال جديدة من الحوار الاجتماعي والتعاون بين أصحاب العمل والموظفين. كما يجب تطبيق أنظمة ضريبية تصاعدية أفضل تصميماً لمعالجة فجوة التفاوت في الدخل المتزايدة الاتساع. ولا بدَّ من إعادة تنشيط سياسات مكافحة الاحتكار لضمان قدر أعظم من المنافسة، وخاصة عندما يتعلَّق الأمر بمنصات وسائط التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الجديدة. ومن الأهمية بمكان التصدي لمشكلة تغير المناخ بشكل مباشر. ويتعيَّن على الحكومات أن تضطلع بدور أكبر في تعزيز التكنولوجيات الرقمية والخضراء الجديدة.
في مجملها، من شأن هذه الإصلاحات أن تغير طريقة عمل اقتصاداتنا إلى حدٍّ كبير. لكنها لا تغيِّر بشكل أساسي السرد حول الكيفية التي ينبغي لاقتصادات السوق أن تعمل بها؛ ولا تمثل انحرافاً جذرياً بالنسبة للسياسة الاقتصادية. الأمر الأكثر أهمية هو أنها تستبعد التحدي المركزي الذي يجب أن تتصدَّى له: إعادة تنظيم الإنتاج.
الواقع أنَّ مشكلاتنا الاقتصادية الأساسي؛الفقر، والتفاوت بين الناس، والإقصاء، وانعدام الأمان لها جدور عديدة. لكننا نعيد إنتاجها وتعزيزها على أساس يومي في سياق الإنتاج، كمنتج ثانوي فوري للقرارات التي تتخذها الشركات بشأن التوظيف، والاستثمار، والابتكار.
بلغة الاقتصاديين، هذه القرارات تَـعُـجُّ "بمؤثرات الخارجية": فهي تخلف عواقب تمتد إلى أشخاص آخرين، وشركات أخرى، وأجزاء أخرى من الاقتصاد. وقد تكون المؤثرات الخارجية إيجابية: لنتأمل هنا التأثيرات غير المباشرة للتعلُّم من البحث والتطوير، وهي معترف بها تماماً (وتشكل الأساس المنطقي للإعفاءات الضريبية وغير ذلك من إعانات الدعم العامة). وتتمثَّل المؤثرات الخارجية السلبية الواضحة في التلوث البيئي والتأثيرات التي تخلفها الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي على المناخ.
تشمل هذه التأثيرات غير المباشرة أيضاً ما يكمن تسميته المؤثرات الخارجية المرتبطة بـ"الوظائف الجيدة". الوظائف الجيدة هي تلك التي تتسم بالاستقرار نسبياً، وتدفع أجراً كافياً لدعم مستوى معيشة معقول مع بعض الأمان والادخار، وتضمن ظروف العمل الآمنة، وتعرض الفرص للتقدم الوظيفي والمهني. وتسهم الشركات التي تولد هذه الوظائف في حيوية مجتمعاتها.
على النقيض من ذلك، يفضي نقص الوظائف الجيدة غالباً إلى تكاليف اجتماعية وسياسية باهظة: الأسر المحطمة، وتعاطي المخدرات، والجريمة، فضلاً عن تدهور الثقة في الحكومات والخبراء والمؤسسات، والاستقطاب الحزبي، والقومية الشعبوية. هناك أيضاً أوجه قصور اقتصادية واضحة، حيث لا تزال التكنولوجيات المعززة للإنتاجية مقصورة على قِلة من الشركات ولا تنتشر، مما يسهم في نمو الأجور الإجمالي الهزيل.
إنَّ القرارات التي تتخذها الشركات حول عدد العمال الذين ترغب في توظيفهم، وكم يجب أن تدفع لهم، وكيفية تنظيم العمل، لا تؤثر في أرباحها وحسب. فعندما تقرِّر إحدى الشركات أتمتة خطوط إنتاجها أو نقل جزء من إنتاجها إلى دولة أخرى، يعاني المجتمع المحلي من أضرار بعيدة الأمد ولا "يتحمَّل عواقبها" مديروها أو المساهمين فيها.
يتلخَّص الافتراض الضمني وراء قدر كبير من تفكيرنا الحالي، فضلاً عن افتراض نموذج دولة الرفاهة التقليدية، في أنَّ "الوظائف الجيدة" لأبناء الطبقة المتوسطة ستظلُّ متاحة لكل من يمتلك المهارات الكافية. والاستراتيجية المناسبة، من هذا المنظور، لتعزيز الإدماج هي تلك التي تجمع بين الإنفاق على التعليم والتدريب، وأنظمة الضرائب والتحويل التصاعدية، والتأمين الاجتماعي ضد المخاطر المصاحبة مثل البطالة والمرض والعجز.
لكن انعدام الأمان الاقتصادي وفجوات التفاوت اليوم تُـعَـدُّ من المشكلات البنيوية. تعمل الاتجاهات البعيدة الأمد في التكنولوجيا والعولمة على تجويف منطقة منتصف توزيع العمالة. والنتيجة هي المزيد من الوظائف السيئة التي لا توفِّر الاستقرار والأجر الكافي والتقدم المهني، وأسواق العمل الكاسدة بشكل دائم خارج المراكز الحضرية الكبرى.
يتطلَّب التصدي لهذه المشكلات الاستعانة باستراتيجية مختلفة تعالج تحدي خلق الوظائف الجيدة بشكل مباشر. ويجب أن يقع العبء على الشركات فيما يتصل باستيعاب التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي تتسبَّب في إحداثها. ومن هنا فإنَّ القطاع الإنتاجي يجب أن يكون في قلب الاستراتيجية الجديدة.
بعبارة صريحة، يتعيَّن علينا أن نغيِّرَ ما ننتج، وكيف ننتجه، ومن له حق إبداء الرأي في هذه القرارات. وهذا لا يتطلَّب سياسات جديدة وحسب، بل يستلزم أيضاً إعادة تشكيل السياسات الحالية.
إنَّ سياسات سوق العمل النشطة المصممة لزيادة المهارات والقابلية للتوظيف يجب أن يجري توسيعها لتتحوَّل إلى شراكات مع الشركات وأن تستهدفَ بشكل صريح خلق وظائف جيدة. ويجب الاستعاضة عن السياسات الصناعية والإقليمية التي تركز حالياً على الحوافز الضريبية وإعانات دعم الاستثمار بخدمات أعمال وتسهيلات مصممة خصيصاً لتسهيل خلق فرص العمل بأقصى طاقة.
كما يجب إعادة تصميم أنظمة الإبداع والابتكار الوطنية لتوجيه الاستثمارات في التكنولوجيات الجديدة في اتجاه أكثر ملاءمة لتشغيل العمالة. ويجب أن نعمل على ربط سياسات مكافحة تغير المناخ، مثل الصفقة الخضراء الأوروبية، بشكل صريح بخلق الوظائف في المجتمعات المتأخرة.
يتطلَّب النظام الاقتصادي الجديد مقايضة صريحة بين الشركات الخاصة والسلطات العامة. فلتحقيق الازدهار، تحتاج الشركات إلى قوة عمل ماهرة يمكن التعويل عليها، وبنية أساسية جيدة، ونظام إيكولوجي من الموردين والمتعاونين، وسهولة الوصول إلى التكنولوجيا، ونظام سليم للعقود وحقوق الملكية. ويمكن توفير أغلب هذه العناصر من خلال العمل العام والجمعي، وهذا هو جانب الحكومة من الصفقة.
تحتاج الحكومة بدورها إلى حرص الشركات على استيعاب المؤثرات الخارجية العديدة التي تنتجها قراراتها المتعلقة بالعمل، والاستثمار، والابتكار، والتي تؤثِّر في مجتمعاتها. كما يتعيَّن على الشركات أن تفي بجانبها من الصفقة ــ ليس كمسؤولية اجتماعية شركاتية، بل كجزء من إطار تنظيمي وإداري واضح.
في المقام الأول من الأهمية، يجب أن تتخلى الاستراتيجية الجديدة عن الفصل التقليدي بين السياسات الداعمة للنمو والسياسات الاجتماعية. إنَّ النمو الاقتصادي الأسرع يتطلَّب نشر تكنولوجيات وفرص إنتاجية جديدة بين الشركات الأصغر حجماً وقطاعات أعرض من قوة العمل، بدلاً من قصر استخدامها على نخبة ضيقة. كما أنَّ آفاق تشغيل العمالة الأفضل تساعد على تضييق فجوات التفاوت والحد من انعدام الأمان الاجتماعي بشكل أكثر فاعلية من عملية إعادة التوزيع المالي وحدها. الأمر ببساطة أنَّ أجندة النمو والأجندة الاجتماعية هما ذات الشيء.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
داني رودريك، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون كينيدي في جامعة هارفارد، وهو مؤلف كتاب "حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي عاقل". ستيفاني ستانتشيفا، أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة هارفارد.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org