الأولوية لفترة التباعد الاجتماعي
مايكل سبنس
ميلانو ــ لقد أحكم فيروس كورونا قبضته الخانقة على الاقتصاد العالمي. ومثلي كمثل العديد من الأصدقاء والزملاء في الصين، أصبحت حبيسا مع بقية إيطاليا. كما يعيش العديد من إخواني المواطنين في الولايات المتحدة ذات الموقف الآن؛ وسوف يتبعنا آخرون في مختلف أنحاء العالم قريباً.
لأن الفيروس يمكن أن ينتقل على ما يبدو بواسطة أولئك الذين لا يشعرون بأي أعراض، فقد انتشر على نطاق واسع تحت رادار سلطات الصحة العامة. ولمنع ارتباك الأنظمة الصحية، جرى تنفيذ تدابير التباعد الاجتماعي والعزل الذاتي الصارمة على نطاق واسع، وتَـقَـبَّـلَها عامة الناس. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت هذه التدابير لتنجح في إبطاء معدل الانتقال والحد من عدد الحالات الحرجة في الغرب.
الواقع أن الأدلة التي تؤكد تقليص الوباء أو حتى احتواؤه في الصين وبعض الاقتصادات الآسيوية الأخرى واعدة. لكن هذه الدول لم تكتف بالاعتماد على تدابير التباعد الاجتماعي، ولكن أيضاً على مجموعة واسعة من الأدوات التي لم تنشر على نطاق واسع في أوروبا والولايات المتحدة: إجراء اختبارات الكشف عن الإصابة بالعدوى على نطاق واسع، وتتبع المخالطين، والعزل الإلزامي، وما إلى ذلك.
مع ذلك، تسببت تدابير تخفيف الجائحة في كل مكان في إحداث توقف مفاجئ لقسم كبير من النشاط الاقتصادي، وكانت الخدمات الأساسية غالباً بين القطاعات الوحيدة المستثناة. وستكون النتيجة انخفاضات حادة في الناتج المحلي الإجمالي والدخول، وارتفاع حاد شبه مؤكد في معدلات البطالة (كما رأينا بالفعل في الولايات المتحدة)، وارتباك التقويم المدرسي، وتعليق قسم كبير من أي أنشطة تنطوي على تجمعات تتألف من أكثر من بضعة أشخاص.
خففت مؤتمرات الفيديو، والتعليم عبر الإنترنت، وغير ذلك من التطبيقات الرقمية، من قسوة الضربة على بعض الناس. لكن النتيجة الاقتصادية الحتمية ستكون الركود العميق إلى جانب أضرار جانبية بعيدة المدى تلحق بسبل معايش الناس ورفاهتهم.
يُــنـظَـر إلى إغلاق الاقتصاد على النحو الصحيح باعتباره وسيلة لكسب الوقت لتوسيع القدرة وتقليل ذروة الطلب على الأنظمة الصحية. لكنها ليست استراتيجية كاملة. فحتى عندما تقترن بتسهيلات نقدية وبرامج مالية ضخمة مصممة لحماية الفئات المعرضة للخطر والقطاعات الضعيفة، ليس من الممكن إطالة أمد التجميد الاقتصادي العميق دون فرض تكاليف غير مقبولة على الأفراد والمجتمعات في نهاية المطاف.
الواقع أنَّ أقساما ًكبيرة من الاقتصاد الحديث ــ وخاصة المطاعم، وتجارة التجزئة، والمسارح، والأحداث الرياضية، والمتاحف، والمتنزهات، والعديد من أشكال السياحة والنقل (مثل السفر الجوي) ــ من غير الممكن أن تعمل ببساطة في ظل ظروف التباعد الاجتماعي. وتشكل هذه القطاعات نسبة كبيرة من إجمالي تشغيل العمالة. وتظل قطاعات كبرى أخرى قادرة على العمل، ولكن ليس بكامل طاقتها.
السؤال إذن هو ماذا يمكننا القيام به الآن لضمان حدوث التعافي والعودة إلى الوضع الطبيعي بأكبر قدر ممكن من الأمان. إن الإغلاق لمدة مقبولة اقتصادياً من غير الممكن أن يعمل في حد ذاته على تقليص المخاطر المرتبطة بالتفاعلات بين الأشخاص. ففي غضون بضعة أسابيع ــ لنقل أربعة إلى ستة أسابيع ــ ستبدأ التكاليف الاقتصادية المترتبة على الإغلاق في التصاعد، وعند هذه النقطة ستبدأ مجموعة من الأشخاص في العودة إلى العمل إذا كان لا يزال هناك أي فرصة عمل متاحة لهم، لأنهم ببساطة لا يملكون تَـرَف الاختيار. (في الهند، حيث بدأ إغلاق الاقتصاد هذا الأسبوع، ستكون الأزمة فورية بالنسبة للعديد من الفقراء). ورغم أنَّ مخاطر الإصابة بالعدوى ستظل عالية، فلن يجدوا من الموارد ما يسمح لهم بالبقاء معزولين. في الوقت ذاته، على الرغم من أنَّ التكاليف المترتبة على إغلاق المدارس لفترات طويلة باهظة، فلن يُـعاد فتح المدارس، أو لا ينبغي أن يُـعاد فتحها، إلى أن تصبح مخاطر عودة فيروس كورونا ضئيلة أو صِفراً.
وعلى هذا فسوف تتوقف سرعة وسلامة التعافي بشكل حاسم على ما إذا كانت المخاطر المصاحبة للأنشطة الجماعية انخفضت بالقدر الكافي. يتعلق أحد العناصر المهمة في الحد من المخاطر بقدرة النظام الصحي. وهذا يعني أنَّ التركيز الحالي على حماية الأطباء والعاملين الطبيين وتجهيزهم بالقدر الكافي بكل ما يحتاجون إليه لتوفير الرعاية الحرجة مُـبَـرَّرٌ تماماً.
لكن هذه الجهود على الخط الأمامي لن تقلل من مخاطر الاتصال بين الأشخاص في عموم الأمر. وللقيام بذلك، يتعيَّن علينا أن نستخدم فترة الإغلاق لتوسيع القدرة على إجراء الاختبارات، وتتبع المخالطين، والعزل، والعلاج.
وهنا، يستحق الأمر أن نقرأ الإحاطة الإعلامية التي قدمها في الخامس والعشرين من مارس/آذار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غبريوسوس: "إن مطالبة الناس بالبقاء في مساكنهم وإغلاق حركة السكان محاولة لكسب الوقت وتقليل الضغط على الأنظمة الصحية. لكن هذه التدابير وحدها لا تقضي على الأوبئة. المقصود من هذه الإجراءات تمكين التدابير الأكثر دقة والأفضل توجيها اللازمة لوقف انتقال العدوى وإنقاذ الأرواح". إذا كان لي أن أعدل بيان الغرض الواضح هذا، الذي يركز على الصحة، فإنني كنت لأضيف التالي فقط إلى الجملة الأخيرة: "... ولتقليل مخاطر العدوى، وإعادة تشغيل الاقتصاد، والتعجيل بالتعافي".
بعد شرح ما تستلزمه تلك التدابير الأكثر دقة والأفضل توجيهاً، أضاف غبريوسوس أنَّ ذات الخطوات ستكون مطلوبة في البلدان التي لا تزال إحصاءات العدوى لديها منخفضة ــ بما في ذلك العديد من الاقتصادات النامية الأدنى دخلاً. بوسعنا أن نتوقع بالفعل أن بعض هذه البلدان ستحتاج إلى مساعدة خارجية للاستعداد للفاشيات المحلية. وهذا ما يجعل التعاون والدعم الدوليين على قدر عظيم من الأهمية لإدارة الأزمة على المستوى العالمي.
على أية حال، النقطة الأساسية هنا هي أن الخطوات اللازمة لإعادة تشغيل الاقتصاد هي ذات الخطوات اللازمة لإبطاء انتقال الفيروس. وبينما نتوقع نهاية التباعد الاجتماعي العصيب، يصبح بناء القدرة لتوسيع نطاق الاختبارات، وتتبع المخالطين، والعزل، والعلاج من الأولويات الاقتصادية. يتعيَّن علينا بكل تأكيد أن ندفع مخاطر الاتصال الشخصي إلى أدنى مستوى ممكن حتى يتمكَّن من يشعرون بضرورة العودة إلى العمل من القيام بذلك وحتى يتسنى لمن يميلون إلى العزل الذاتي طوعا العودة إلى المدارس والنشاط الاقتصادي الكامل، وهم يشعرون بالأمان نسبياً.
تشير الحالات الآسيوية إلى أن التكنولوجيات الرقيمة أدوات فعّالة في استهداف ومراقبة العدوى، والإبقاء على الناس والسلطات مطلعين على المخاطر. تعتمد بعض التقنيات الأكثر فاعلية على بيانات الموقع، وربما يثير هذا مخاوف تتعلق بالخصوصية في بعض البلدان. ولكن نظراً لحجم التحدي، فلا ينبغي لنا أن نستبعد مثل هذه الأساليب على الفور. الواقع أن المنصات على الإنترنت لديها بالفعل بيانات الموقع التي يمكن استخدامها لإخطار المواطنين بالتعرض المحتمل للعدوى. لقد أثبتت البنية الأساسية الرقيمة بالفعل كونها مصدراً أساسياً للمرونة الاقتصادية في هذه الأزمة. وفي غيابها، كان ليصبح العمل والتدريس عن بُـعد، والتجارة الإلكترونية، والخدمات المالية الرقمية في حكم المستحيل، وكان التباعد الاجتماعي الصارم ليفضي بالفعل إلى توقُّف الاقتصاد على نحو شبه كامل.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
مايكل سبنس حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ علوم الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، وكبير زملاء مؤسسة هوفر.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org