التداعيات الاقتصادية الحقيقية لفيروس كورونا المستجد

التداعيات الاقتصادية الحقيقية لفيروس كورونا المستجد

دينيس ج سنوفير

برلين – إنَّ الحكومات حول العالم تتبنى سياسات نقدية ومالية توسعية بشكل كبير من أجل التعامل مع التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا المستجد ولكن مثل هذا السخاء مناسب لركود على الطراز القديم ولكن ليس لأزمة صحة عامة.

نحن نواجه حالياً مقايضة بين الفرز الاجتماعي والانهيار الاقتصادي، وذلك لأن الكثير من النشاطات الاقتصادية تتضمَّن تفاعلات اجتماعية بين الناس بما في ذلك تجارة التجزئة والمطاعم والسياحة والفعاليات الترفيهية الحية ومعظم أشكال الحياة المكتبية ومع تطبيق التباعد الاجتماعي فإن مثل هذه النشاطات ستتوقف.

والأسوأ من ذلك أن فيروس كيرونا المستجد هو أول جائحة تضرب بشكل عميق الاقتصاد العالمي المتكامل؛ فمعظم البضائع الآن هي نتاج سلاسل التوريد العالمية، حيث إن التفاعلات الجسدية في مكان ما مرتبطة بتفاعلات جسدية في أماكن أخرى. لو أوقفنا التفاعلات الجسدية في مكان ما، فإننا سنشعر بالتداعيات الاقتصادية في أماكن أخرى.

إن زيادة الصرف الحكومي وتخفيض الضرائب وأسعار الفائدة التي وصلت للحضيض يمكن أن تبقي الناس مستمرين في حياتهم على المدى القصير، ولكنها لا تحفّز النشاط الإنتاجي عندما لا يعمل الناس. إنَّ دعم الدخل للأشخاص الذين تمَّ تعيينهم حديثاً لن يؤدي بالضرورة لتعزيز الاستهلاك عندما تكون معظم المحال التجارية مغلقة وخدمات التوصيل غير قادرة على الوفاء بالطلب الذي ازداد بشكل كبير جداً.

إنَّ المشكلة ليست انخفاض عام في الطلب الكلي كما كانت عليه الحال خلال الركود العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي، بل هو هبوط دراماتيكي في إنتاج واستهلاك البضائع والخدمات والتي تعتمد على التفاعلات الجسدية، إضافة إلى ارتفاع دراماتيكي كذلك في إنتاج واستهلاك البضائع والخدمات التي لا تتطلب مثل تلك التفاعلات.

ولهذه الأسباب فإن أعمال أمازون ونيتفليكس تشهد حالياً ازدهاراً مع تدهور أعمال الفنادق والمطاعم. وفي واقع الأمر فإن الجائحة قد تسببت في عدم وجود تطابق اقتصادي بشكل كبير؛ فالعديد من القطاعات التي تعتمد على عمليات الإنتاج والتوزيع الحالية تتخلص من العمال بينما القطاعات الأخرى لا تستطيع أن تعين ما يكفي من العمالة.

لقد أعلنت العديد من الحكومات إجراءات مالية للتخفيف من التأثير الاقتصادي للجائحة مثل دفع معظم أجور العمال الذين أصبحوا في إجازة (كما هي الحال في المملكة المتحدة) أو إرسال شيك تحفيز لدافعي الضرائب ( كما هي الحال في الولايات المتحدة الأمريكية). إن كندا والدنمارك وفرنسا وغيرها تدفع أجزاءً كبيرة من رواتب الشركات وذلك حتى تبقى الشركات سليمة.

لكن مثل تلك المبادرات تهدف إلى المحافظة على الدخل من الوظائف التي اختفت عوضاً عن جني الدخل من الوظائف التي لم يتم شغلها بعد، وبينما مثل تلك السياسات مناسبة لمكافحة الركود الاقتصادي أو تغطية نقص مؤقت في الطلب الكلي، فإنها لن تساعد على معالجة مسألة عدم وجود تطابق اقتصادي بشكل كبير.

في واقع الأمر سيكون عملاً غير مسؤول إذا قامت الحكومات بوضع سياسات على افتراض أن الجائحة الحالية هي شيء مؤقت سيحصل مرة واحدة. يجب أن لا يعتقد صنّاع السياسات أنه سيكون كافياً إعطاء أصحاب العمل والموظفين بعض الأموال من أجل مساعدتهم مالياً قبل العودة السريعة للوضع الطبيعي اقتصادياً.

لا أحد يعرف متى ستنتهي هذه الجائحة، فلو كانت الفترة طويلة فإن عدم وجود تطابق اقتصادي بشكل كبير يجب أن يدفع الحكومات في كل مكان للتخطيط لتغيير هيكلي مستمر. إن دعم الدخل لوظائف غير موجودة لن يصبح خياراً، وعليه يجب أن تكون الأولوية لمساعدة الناس على إيجاد وظائف جديدة.

لو استمرت الجائحة لفترة قصيرة نسبياً فإن على الحكومات أن تتحقق أنها لن تتفاجأ مرة أخرى وهي غير مستعدة كما هي عليه الحال الآن. إن هذا يعني تقوية مرونة وصلابة الاقتصاد لمقاومة الصدمات التي تتسبَّب بها مثل هذه الجائحة، وذلك من خلال التحقُّق من أنَّ الناس لديهم المهارات المطلوبة لآداء وظائف جديدة.

وعليه بغض النظر عن الفترة التي تستغرقها الجائحة، فإن تنظيم النشاطات الإقتصادية يحتاج لتغيير جوهري ولكن حتى الآن لم تتصدَّ الحكومات لذلك التحدي.

وحتى نفهم المشكلة الكامنة ونحدِّد السياسة الصحيحة، نحن بحاجة إلى وضع فئات جديدة للنشاطات الاقتصادية، حيث نحتاج على وجه الخصوص لتقسيم الإنتاج والاستهلاك لنشاطات تتطلَّب التفاعل الجسدي وتلك التي لا تتطلَّب التفاعل الجسدي.

إنَّ هذه الجائحة تعيد هيكلة سلاسل التوريد العالمية والسلوك الاستهلاكي على مستوى العالم بشكل دراماتيكي على حساب النشاطات التي تتطلَّب التفاعل الجسدي ولمصلحة النشاطات التي لا تتطلَّب مثل ذلك التفاعل ونتيجة لذلك فإن الوظيفة الأساسية للحكومات لا تتمثَّل في التعويض عن النقص في الطلب الكلي، بل تمويل التعديلات المطلوبة من أجل التغلب على عدم وجود تطابق اقتصادي بشكل كبير.

ليس كافياً تقديم دعم الدخل لناس بدون وظائف، حيث يجب على الحكومات كذلك تسهيل إمكانية حصولهم على البضائع والخدمات الأساسية مثل الطعام والرعاية الصحية، إضافة إلى دعم الصحة النفسية والجسدية. علماً بأن حرية الوصول لتلك البضائع والخدمات غير مضمونة بالمرة هذه الأيام في العديد من البلدان، مما يؤدي إلى مشاعر القلق واليأس على نطاق واسع.

إن خدمات التوظيف يمكن أن تلعب دوراً حيوياً في تحديد الوظائف التي تنتشر بشكل سريع والتي لا تتطلَّب التفاعل الجسدي، ونقل تلك المعلومات للناس الذين يعملون في نشاطات تتطلب تفاعلاً جسدياً، وفي الوقت نفسه يجب على وزارات المالية والعمل دعم مصاريف الانتقال من أجل الحصول على وظيفة، إضافة إلى مصاريف التدريب.

يجب على الحكومات أن تدفع دعم عمالة من أجل تشجيع حركة العمّال من الوظائف التي تتطلب التفاعل الجسدي والتي أصبحت تتناقص بشكل كبير إلى الوظائف التي لا تتطلب تفاعلاً جسدياً والتي أصبحت متوافرة. إن هذا أفضل كثيراً من التخفيضات على الضرائب المترتبة على الرواتب والتي تهدف للمحافظة على وظائف قديمة عوضاً عن التغلب على عدم وجود تطابق.

إضافة إلى ذلك، فإن الجائحة لا تخدم المصلحة العامة والأفراد غير مطالبين بدفع كامل تكلفة الضرر الذي يتسببون به للآخرين بنقل المرض. ونظراً لأن نظام السوق الحر لا يستطيع التعامل بفاعلية مع هذه المشكلة، يجب تمويل الاختبارات والمعالجة من قبل الحكومة وهذا مقبول كأمر طبيعي في بعض البلدان (مثل المانيا وكوريا الجنوبية) ولكن يتم تجاهله بشكل محزن من قبل دول أخرى (مثل الولايات المتحدة الأمريكية).

صحيح أن دعم تكاليف التعديلات المطلوبة للتعامل مع  عدم وجود تطابق اقتصادي كبير سيكون مكلفاً، ولكن المبالغ المدفوعة ستكون قليلة مقارنة بالمبالغ التي تخطط الحكومات حالياً لإنفاقها رداً على التداعيات الاقتصادية للجائحة.

إن التداعيات هي ليست تراجع الطلب، بل التحوُّل المفاجئ والسريع في نشاطات الإنتاج والاستهلاك المتعلقة بنا، وعوضاً عن أن نحاول وبشدة تطبيق حلول قديمة لمشكلة جديدة، يجب على الحكومات في كل مكان مساعدة الاقتصادات بالتأقلم مع هذا التغيير.

دينيس ج سنوفير، رئيس مبادرة الحلول العالمية، وهو أستاذ في كلية هيرتي للإدارة العامة في برلين، وزميل أبحاث مسؤول في كلية بلافاتنيك للدراسات الحكومية في جامعة أكسفورد، وهو زميل غير مقيم في معهد بروكنجز ورئيس فخري لمعهد كيل للاقتصاد العالمي.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org