الإجماع غير المؤكد على الجائحة

جان بيساني فيري

باريس ــ تُـرى ماذا تُـعَـلِّـمُـنا أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) عن دور الدولة؟ وما الدروس الدائمة التي قد تستخلصها مجتمعاتنا منها؟ لا يزال من المبكر للغاية طرح مثل هذه التساؤلات، لكن تجنبها أمر غير وارد. فقد يتسبَّب تأجيل مناقشتها ببساطة في ترك المجال مفتوحا لأولئك الذين يروجون لهوس قديم مضى زمنه وولى منذ أمد بعيد (إن كان أي زمن على الإطلاق مناسباً له).

يجب أن تكون نقطة البداية أن إجماعاً جديداً في التعامل مع الجائحة تَـشَـكَّـل في ساحة المعركة، رغم أنف الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويمكن تلخيص هذا الإجماع في أربعة مقترحات.

أولاً، في أغلب الأحيان، تختلف القيمة الاجتماعية للمهن، والمهام، والسلوكيات ــ الثمن الذي ينبغي له أن يوجه القرارات الخاصة بالسياسات والاختيارات الفردية ــ عن قيمتها السوقية بهامش عريض. في وقت ما قُـرب نهاية شهر مارس/آذار، أدرك قسم كبير من العالَم أن العاملين في مهنة التمريض أو مساعدة الرعاية يستحقون أجراً أكبر مما يتلقونه عادة ــ على الأقل في تلك اللحظة.

هذا الانفصال ليس بجديد، لكنه كان منسياً. من خلال تسليط الضوء على القطاع حيث أداء الأسواق هو الأسوأ على الإطلاق ــ الرعاية الصحية ــ تسببت جائحة فيروس كورونا في التعجيل حتما بإعادة تقييم واجبة للأدوار النسبية التي تضطلع بها الأسواق والدولة.

ثانياً، لا تستطيع أي جهة سوى الحكومات التأمين ضد المخاطر الكارثية. مرة أخرى، كان من المعلوم لفترة طويلة أن الدولة هي الملاذ الأخير للتأمين. لكن ما ظل في السابق مفهوماً مجرداً نسبياً بات واضحاً جلياً للجميع الآن على حين فجأة. في مواقف الكرب العام، تستطيع الحكومات فقط (بمساعدة البنوك المركزية) حماية المواطنين، ومنع حالات الإفلاس، والحد من التشرذم الاجتماعي. والأسواق بارعة في معالجة المخاطر التعويضية التبادلية، لكن الدولة وحدها القادرة على التعامل مع المخاطر التالية النادرة الحدوث.

ثالثاً، تساعد العولمة في تعزيز الكفاءة، لكن الدولة هي التي يجب أن تعمل على توفير المرونة والقدرة على الصمود. حتى وقت قريب، كان من المعتقد عن يقين أنَّ البلدان فرادى يمكنها دائما الاعتماد على الأسواق العالمية العميقة السائلة للوصول إلى السلع التي تحتاج إليها أيا كانت. ولكن بعد ذلك، جاء إدراك صادم مفاده أن هذه الأسواق يمكن أن تتعطل بِـفِـعل ارتفاع مفاجئ في الطلب على أقنعة الوجه وأجهزة مساعدة التنفس، وأن الصين وحدها تمثل 60% من الصادرات العالمية من المعدات الطبية الواقية. لا عجب إذن أن تكون "السيادة الصحية" على رأس البنود في خطة التعافي الفرنسية الألمانية المعلن عنها أخيراً لأوروبا.

أخيراً، يمكن تجاوز العقبات التي تحول دون تدخل الدولة في حال حدوث صدمة لا تتكرر سوى مرة واحدة كل قرن. مع تمكن الأزمة في شهر مارس/آذار، سارع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ قرار بتخفيف قواعده التي تحد من مساعدة الدولة للشركات الخاصة وتفعيل فقرة الهروب التي تعفي البلدان الأعضاء من القيود المالية المنصوص عليها في ميثاق الاستقرار والنمو. سمح هذان القراران لبلدان الاتحاد الأوروبي بتقديم دعم مالي ضخم للعمال والشركات الخاصة من خلال خطط الاحتفاظ بالوظائف، فضلاً عن ضمانات الائتمان، والقروض، ودعم الأسهم، والـمِـنَـح.

السؤال الآن هو أي أجزاء من هذا الإجماع قد تنجو من المرحلة الحادة من الأزمة. بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، زعم كثيرون أن الرأسمالية غير المقيدة محكوم عليها بالفشل. وكما قال في دافوس الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في عام 2010 "هذه الأزمة هي أزمة عولمة. إنها رؤيتنا للعالم التي أثبتت في لحظة معينة من الزمن أنها معيبة. وعلى هذا فإنَّ رؤيتنا للعالم هي التي يتعين علينا أن نعمل على تصحيحها". ولكن على الرغم من تشديد الضوابط التنظيمية المصرفية في أعقاب الانهيار المالي في عام 2008، فشلت إصلاحات الرأسمالية في الارتقاء إلى مستوى هذه الطموحات الكبرى.

غير أنَّ صدمة كوفيد-19 أعظم كثيراً، وكانت التوترات الاجتماعية السابقة عليها أعمق من تلك التي كانت في عام 2008. وعلى هذا فإنَّ الأزمة الحالية ينبغي أن توفِّر أرضية خصبة لإعادة تقييم الدور الذي تضطلع به الدولة ومسؤولياتها الفريدة.

ينبغي لهذه العملية أن تقود إلى تحوُّل سياسي يضع الأسواق في مكانها الصحيح: باعتبارها مؤسسات اجتماعية أساسية لكنها ليست مهيمنة. في إعادة لصياغة عبارة المؤرخ الاقتصادي كارل بولاني يمكننا أن نقول إنَّ الأسواق يجب أن تشكل جزءاً لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية، وليس العكس. ومن الواضح أنَّ حالة الطوارئ المناخية الحالية، وبشكل أكثر عموماً، الثِـقَـل المتزايد الذي اكتسبته التفاعلات غير السوقية ــ أو ما يسميه الاقتصاديون العوامل الخارجية ــ تزيد من قوة هذا الرأي.

على ذات المنوال، ينبغي لصدمة كوفيد-19 أن تخدم كتذكرة بأن الحكومات يجب أن تحتفظ بالقدرة الفائضة حتى يتسنى لها أن تضطلع بدورها بالكامل في حالات الطوارئ. وليس من قبيل المصادفة أن تأتي استجابة ألمانيا ذات الجيب العميق للأزمة الحالية شديدة القوة، في حين كانت القوة المالية لدى إيطاليا ــ واليونان بشكل خاص ــ محدودة. ورغم أن دعم البنوك المركزية من الممكن أن يساعد على تخفيف القيود المفروضة على الاقتراض الحكومي ــ وخاصة في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة الحالية ــ فإنه لا يزيل هذه القيود بالكامل.

لكن سياسة اليوم المصدومة، المعرضة للعواطف والميالة إلى التشكك، ربما يجب أن تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. صحيح أن الحكومات تتحمَّل قدراً من المسؤولية عن جائحة كوفيد-19 أقل كثيراً من اللوم الذي تستحقه عن الأزمة المالية، التي كانت كارثة من صنعها. لكن المظالم كثيرة رغم ذلك، وسوف تتنامى مع توالي العواقب الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الجائحة.

في هذا السياق، سوف يميل المواطنون الغاضبون إلى تصديق الروايات حول ضرورة وجود أسباب خفية وراء عقاب الأمس الحتمي المزعوم. وربما يستنتجون أنَّ الحكومات يجب أن تتوقَّف عن الالتزام بقيود وهمية كما يبدو، لأن كل ما كان يعدُّ مستحيلاً في السابق أصبح ممكناً بصورة مفاجئة.

على سبيل المثال، يتساءل كثيرون الآن عن سبب إخضاع المستشفيات لقيود صارمة على الميزانية، فقط لكي تلغى هذه القيود في الاستجابة للجائحة. وسوف يتساءل كثيرون عن السبب وراء إصرار الحكومات لفترة طويلة للغاية على أنها كانت مضطرة إلى تقليص نسبة الديون العامة، فقط لكي تبدأ الآن في إلقاء الأموال على كل مشكلة كلما اقتضت الضرورة. وكثيرون سيتساءلون لماذا روج صنَّاع السياسات للانفتاح الاقتصادي على أنه مصلحة وطنية حيوية، إلى أن أصبحت السيادة الشعار الجديد.

هذه تساؤلات مشروعة. لقد حطمت الجائحة العديد من المحرمات السياسية، وعلى هذا فمن غير الجائز أن تكون الإجابة: "لا يوجد بديل". فقد أضحت هذه العبارة (لا يوجد بديل) ضحية أخرى من ضحايا هذه الأزمة، ولا ينبغي لأحد أن يحزن على فراقها. إنَّ مجتمعاتنا في احتياج إلى مناقشة مفتوحة قائمة على الحقائق حول الخيارات التي يجب اتخاذها في المستقبل، والمبادئ التي يجب أن توجه عملية اتخاذ القرار. ومع ذلك، ليس من المؤكد ما إذا كانت مجتمعاتنا قادرة حالياً على إدارة مثل هذه المناقشة. ومن الواضح أنَّ المعركة التي تدور رحاها الآن بين فلسفة سياسية جديدة من جانب وقناع جديد تتنكر به الشعبوية على الجانب الآخر ستحدد مستقبلنا.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

جان بيساني فيري كبير زملاء مركز بروجل البحثي في بروكسل، وكبير زملاء غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وهو يشغل كرسي توماسو بادوا شيوبا في معهد الجامعة الأوروبية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org