ما تكشفه جائحة كوفيد-19 عن الولايات المتحدة والصين
أندرو شنج ؛ شياو قنج
هونج كونج ــ لا شيء مثل الجائحة في الكشف عن الاختلافات الجهازية. فيما يتصل بالصين والولايات المتحدة، اللتين كانتا منهمكتين في منافسة ذات دوافع إيديولوجية حتى قبل اندلاع أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19 COVID-19)، سيتبين لنا أن هذه الاختلافات صارخة. لكن البلدين يشتركان في قاسم واحد على الأقل: عندما ينتهي كل هذا، سيكون لزاماً على كل من البلدين أن يعيد التفكير في عقده الاجتماعي.
للحد من انتقال عدوى الفيروس، فرضت الصين والولايات المتحدة تدابير التباعد الاجتماعي، التي تسببت ــ إلى جانب البطالة التي تنتجها ــ في كسر دورة الكسب والإنفاق التي تدعم النمو العالمي. تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنَّ الناتج المحلي الإجمالي العالمي سينكمش بنحو 3% هذا العام. في الصين، انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 6.8% في الربع الأول من هذا العام.
غير أنَّ تدابير الصحة العامة التي طبقت في كل من البلدين ــ والنتائج المترتبة عليها ــ كانت متباينة بشكل حاد. فقد أفضت عمليات الإغلاق الصارمة في الصين إلى تراجع كبير في حالات الإصابة الجديدة، في حين سمحت الاستجابة المتأخرة المفككة في أميركا بتصاعد حالات الإصابة بالعدوى ــ وحصيلة الموتى ــ بشكل حاد.
يُـعـزى هذا التباين غالباً إلى اختلافات سياسية: حيث يسمح التخطيط المركزي في الصين بالتحرُّك بقدر أكبر من الحزم. لكن هذا التفسير يتغافل عن مدى تأثير نماذج النمو في الولايات المتحدة والصين في تشكيل الاستجابات في كلٍّ من البلدين ــ والتأثيرات المالية والاقتصادية المترتبة عليها.
في الولايات المتحدة، أدت عقود من السياسات النيوليبرالية إلى الاعتماد على الاستهلاك الممول بالاستدانة. ولم يدخر الأميركيون الكثير لكنهم أفرطوا في الاقتراض. فبفضل "الامتياز الباهظ" المتمثل في مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية رائدة، تمكنت الحكومة من سلوك ذلك الاتجاه. وعلى هذا فقد تضخم العجز المالي وعجز الحساب الجاري.
مع ذلك، ظلَّ التضخم منخفضاً، حتى عندما انتهج مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سياسات توسعية، وهذا راجع إلى حدٍّ كبير إلى صدمات العرض الإيجابية التي نتجت عن اندماج الصين وغيرها من البلدان النامية في الاقتصاد العالمي. ومرة أخرى يسلك بنك الاحتياطي الفيدرالي هذا الطريق أثناء الجائحة، فيخفض أسعار الفائدة بشكل حاد ويعمل على توسيع ميزانيته العمومية بأكثر من 2.4 تريليون دولار في الأسابيع الستة المنصرمة لمنع نقص السيولة الجهازي.
كما كدس النظام المالي الأميركي قدراً مفرطاً من الروافع المالية (الإنفاق بالاستدانة)، في حين أصبح في حالة انفصال متزايد عن الاقتصاد الحقيقي. فشركات وال ستريت تتاجر فيما بينها، بدلاً من خدمة مصالح عامة الناس. وتعتمد الشركات على أسواق رأس المال أكثر من اعتمادها على البنوك.
فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من تقدم أساليب الدفع الإلكتروني، تواصل الأسر والشركات الصغيرة التعامل بشكل رئيس بالنقد الأقل كفاءة، والشيكات الورقية، وبطاقات الائتمان. وتقوم وزارة الخزانة الأميركية بتسليم مدفوعات التحفيز في موجهة الجائحة من خلال الودائع المباشرة والشيكات المرسلة بالبريد.
لقد استفادت منصات التكنولوجيا من نموذج النمو القائم على الاستدانة، مما دفع قدراً لا نهاية له من الاستهلاك من جانب المستخدمين ــ ولنقل من خلال الإعلانات الموجهة بدقة ــ مع قدر أقل من الاهتمام بدعم أولئك الذين يحاولون توليد الدخل عبر الإنترنت. يجسد "اقتصاد العمل المؤقت" هذه الديناميكية الوحيدة الاتجاه: فمنصة مثل أوبر مصمَّمة على النحو الذي يجعلها مثالية للمبيعات، وهي تزود العاملين بالحد الأدنى من التدريب والحماية، في حين تتبع الأجهزة التنظيمية نهج عدم التدخل.
كان من الواضح لفترة طويلة أنَّ النموذج الأميركي غير قابل للاستمرار على المستويات المالية والبيئية، وأيضاً الاجتماعية ــ نظرا لمستويات التفاوت التي ارتفعت إلى عنان السماء. لكن جائحة كوفيد-19 أظهرت أنَّ أيَّ تعطل في دورة الاستهلاك والاستدانة تهدد بإحداث انهيار على الفور تقريباً: فبمجرد انقطاع الدخل، تسارع المؤسَّسات المالية الخاصة إلى الحد من الائتمان، خوفاً من القروض المتعثرة. كما يتدنى الاستهلاك بشدة، مما يزيد من استنفاد الدخول. ولدرء الكارثة، يجب أن يتدخل بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة، لتحويل مخاطر الائتمان إلى الميزانية العمومية للقطاع العام.
يتجنب النموذج الصيني الكثير من هذه المزالق. فإلى جانب المدخرات المرتفعة، اعتمدت الصين على الصادرات والاستثمار، بدلاً من مستويات الاستهلاك المحلي غير المستدامة، لتغذية النمو. علاوة على ذلك، عملت منصات تكنولوجية مبتكرة ــ وخاصة في مجال التكنولوجيا المالية ــ على ربط الاقتصاد التقليدي بنظام بيئي رقمي يمكن الوصول إليه على نطاق واسع ويشجع المستخدمين على الاستهلاك والكسب، فيعزز بالتالي المرونة البنيوية والتنظيمية للاقتصاد الصيني.
هذه ليست نتائج التخطيط المركزي، بل ترجع إلى التجريب المستمر على الأرض والتكيف على أساس المردود المنعكس من القاعدة إلى القمة. كانت المنصات التكنولوجية، وليس مؤسَّسات التخطيط المركزي، هي التي عملت على تطوير شبكات شاملة عززت الإبداع والابتكار، وخلقت أسواقاً جديدة، وولَّدَت الوظائف. واقتصر دور الهيئات التنظيمية على تسهيل الأمور.
أبرزت أزمة كوفيد-19 الفوائد المترتبة على هذا النهج. إذ تعمل أنظمة "التطبيقات الفائقة" البيئية في الصين على خلق نماذج عمل رقمية دائرية من "الكسب والإنفاق والدفع" تساعد على الدمج بين وظائف شركات الأعمال والمستهلكين، على قاعدة أوسع كثيراً من نظيراتها في النماذج الغربية التي لا تزال مقسمة تبعاً لضوابط تنظيمية قطاعية. أثناء فترة الإغلاق، عملت منصات الأسواق مثل علي بابا (Alibaba)، وبندودو (Pinduoduo)، وغيرهما، كشريان حياة للعديد من أصحاب الأعمال الصغيرة والمتناهية الصِّغَر، فأبقتهم على اتصال بالملايين من المستهلكين المحليين والدوليين. كما لعبت شركات اللوجستيات العاملة على الإنترنت، مثل JD.com، دوراً بالغ الأهمية، حيث ضمنت تسليم السلع الأساسية طوال فترة الإغلاق.
ساعدت منصات مثل وي تشات (WeChat) التابعة لشركة تنسينت (Tencent)، وهي منصة لوسائط التواصل الاجتماعي، على تمكين الناس من البقاء على اتصال بأسرهم وأصدقائهم خلال فترة الإغلاق، في حين سمحت لبعض الأفراد المبدعين بكسب الدخل من المدونات ومدونات الفيديو. وكانت المدفوعات ترسل عبر تطبيق WeChat Pay. كما عملت منصة WeChat على تمكين الحكومة من نقل رسائل مهمة إلى جماهير الناس، وسهلت أيضاً عمليات تنسيق المشاريع المعقدة، مثل تسليم المعدات والمستلزمات الطبية الحرجة. وسمح تطبيق Meeting app التابع أيضاً لمنصة Tencent للمدارس بمواصلة العمل من خلال الفصول الدراسية عبر الإنترنت.
مع تخفيف عمليات الإغلاق، تُـسـتَـخـدَم البرمجيات المثبتة في منصات مثل WeChat و Alipay، وهي منصة الدفع عبر الإنترنت التابعة لشركة Alibaba، لمراقبة صحة السكان وتحديد الأماكن التي يمكنهم الذهاب إليها. كان كل ذلك ممكناً بفضل مدى وصول وانتشار هذه المنصات: فواحد من هذين التطبيقين، أو كليهما، مثبت بالفعل على كل هاتف ذكي في الصين تقريباً.
على هذا، فقد نجحت الصين في تطوير نظام متكيف سهل يربط بين 800 مليون هاتف ذكي محلي بطرق منتجة، فوق قمة نظام مصرفي تقليدي هرمي. ويُـعَـد هذا عنصراً حاسماً في نظام هجين دوري أعرض اتساعاً يضمُّ المدخرات والاستهلاك والاستدانة والدخل، وهو أكثر مرونة وقدرة على الصمود من النموذج الغربي القائم على الاستهلاك الممول بالاستدانة. الحق أن هذا يعدُّ سبباً رئيساً وراء عدم مواجهة القطاع المالي في الصين لنقص حاد في السيولة، وهو ما استدعى استجابة حازمة من قِـبَـل البنك المركزي أثناء إغلاق الاقتصاد.
مع استمرار تطور نموذج التنمية في الصين، فقد يتحول إلى نظام دائري بالكامل يعمل على تعزيز إنشاء رأس المال الاقتصادي والاجتماعي والطبيعي، بدلاً من استهلاكه ببساطة. لكن النجاح سيعتمد على تطوير عقد اجتماعي أكثر شمولاً لمرحلة ما بعد الجائحة ــ وهي العملية التي قد تتعطل بسهولة بسبب التنافس الإيديولوجي والجيوسياسي الشرس مع الولايات المتحدة.
غير أنَّ الولايات المتحدة أيضاً يجب عليها أن تعمل على تحديث عقدها الاجتماعي، وخاصة من خلال تعزيز الشمولية والقدرة على الصمود. وكما هي الحال في الصين، يتلخص المفتاح إلى النجاح في تحقيق هذه الغاية في إيجاد التوازن الصحيح بين الشركات الضخمة والشركات الصغيرة، بين الخصوصية الفردية والبيانات الضخمة، وبين الكفاءة في الأمد القريب وإدارة المخاطر للأمد البعيد.
لكن تحقيق هذه الغاية يستلزم التخلي عن افتعال المواقف السياسية الكبرى وإفساح المجال للتبادل العقلاني المستنير الشامل. وإذا حكمنا من خلال استجابة الولايات المتحدة لأزمة كوفيد-19، فسيتبين لنا أن هذا ليس مضموناً على الإطلاق.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
أندرو شينج، زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونج كونج، وهو عضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام. شياو قنج رئيس معهد هونج كونج للتمويل الدولي، وهو أستاذ ومدير معهد أبحاث طريق الحرير البحري في كلية إتش إس بي سي لإدارة الأعمال في جامعة بكين.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org