لماذا يجب على أميركا الاستثمار بقوة في البنية التحتية؟

لورا تايسون، ليني مِندونكا

بيركلي ــ لطالما نادى الاقتصاديون على اختلاف أطيافهم السياسية بزيادة استثمارات البنية التحتية في الولايات المتحدة. والآن يناقش الكونجرس حزم الإنفاق على البنية التحتية التي من شأنها الحفاظ على التعافي الاقتصادي الحالي وتعزيز النمو المحتمل خلال العقد التالي.

رغم الانقسامات الحزبية العميقة بشأن غالبية القضايا الأخرى، أقر مجلس الشيوخ بأغلبية كبيرة مؤخرا قانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية بقيمة تريليون دولار. ويجب أن يحظى القانون الآن بإقرار مجلس النواب، الذي توصلت رئيسته نانسي بيلوسي إلى اتفاق بشأن عقد جلسة للتصويت عليه بنهاية سبتمبر/أيلول الجاري. ورغم ما يبدو من ترجيح الموافقة، فلا شيء مؤكد على الإطلاق، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار عدم توافر الدعم الكامل من جانب الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب، والانقسامات القائمة بين الديمقراطيين بالمجلس.

يركز قانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية على البنية التحتية المادية التقليدية، حيث تنحصر معظم الحاجة في الصيانة المهمَلة طويلًا، بالتعهد بتخصيص نحو 550 مليار دولار للاستثمار في أشياء كالطرق والجسور والبنية التحتية لشبكات المياه ونطاقات الاتصال العريضة. كما يتضمن القانون استثمارات ذات صلة بالمناخ في مجالي نقل الطاقة النظيفة والبنية التحتية الخاصة بالسيارات الكهربائية، التي تشمل كهربة حافلات المدارس والنقل العام.

ستُموَّل تلك الاستثمارات من خلال مزيج من أموال الإغاثة غير المنفَقة المخصصة لحالات الطوارئ، ورسوم المستخدمين المفروضة على الشركات، وتطبيق الضرائب المعزَّز، والإيرادات الناتجة عن زيادة النمو الاقتصادي. هنا يحذر مكتب الميزانية في الكونجرس من احتمالية أن يفضي قانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية إلى زيادة العجز المالي بمقدار 256 مليار دولار على مدار العقد التالي. لكن الاقتراض الإضافي لتمويل البنية التحتية أمر مبرَّر ومسوَّغ، لأنَّ التكلفة الفعلية للاقتراض الفدرالي تقع حاليًّا في نطاق 2%، بينما العائد المتوقع من الاستثمار في البنية التحتية المادية يقدر بنحو 7%.

فضلًا عن ذلك، فإنَّ قانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية ما هو إلا دفعة أولية من الاستثمارات المطلوبة في رأس المال المادي والبشري لتحقيق النمو الشامل والمستدام، إذ يجب على الكونجرس إقرار خطة أكبر وأكثر جرأة تركز على التنمية البشرية والحراك الاقتصادي والتأقلم على مواجهة آثار تغير المناخ.

لإدراك تلك الغاية، صادق مجلس الشيوخ أخيرًا، وبدعم من الديمقراطيين فقط، على قرار بميزانية قدرها 3.5 تريليونات دولار للسنوات العشر القادمة لتغطية مثل تلك الاستثمارات، وقد أدرج مجلس النواب الآن الخطة ضمن إطار عمله المتعلق بالميزانيات. مجددًا أقول إنَّ إقرار الخطة ليس مؤكدًا بأي حال من الأحوال، فهناك تفاصيل كبرى ينبغي الاستقرار عليها، كما أنه لا تزال هناك مفاوضات شاقة بشأن التمويل والبنود الأخرى غير المتعلقة بالبنية التحتية (بما في ذلك الهجرة).

يقوم الاقتصاد الأميركي على أسس هشة. فرغم النهوض بسرعة وقوة مدهشتين من الركود الناجم عن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، قد يشرع مجلس الاحتياطي الفدرالي قريبًا في تقليص مشترياته الشهرية من السندات، كما ستُطبَّق حزم التدابير المالية الطارئة وتحفيز الإنفاق - المقررة سابقًا - وتأخذ مجراها قريبًا. وقد أدى تفشي المتحور دلتا (بسبب التردد بشأن اللقاح) إلى تقليص الطلب بالفعل في القطاعات الحساسة للجائحة مثل السفر والسياحة والضيافة. الأسوأ من ذلك أنَّ التعافي لم يصل بعد لكثير من العاملين الأكثر تضررًا من "الركود المزدوج"، خصوصًا أصحاب التعليم دون الجامعي، والنساء الأقل أجرًا، والملونين في القطاعات المتضررة.

علاوة على ذلك، تبقى مشاركة القوة العاملة محدودة، ويرجع هذا في المقام الأول إلى إغلاقات المدارس التي أجبرت الكثير من الآباء والأمهات (النساء بالدرجة الأولى) على ترك أعمالهم للاعتناء بأطفالهم. ومع انتهاء استحقاقات البطالة هذا الشهر، ستختفي المزاعم ذات الدوافع السياسية القائلة بأنَّ توسيع مظلة تلك الإعانات شجع على تقلص مشاركة القوة العاملة. في واقع الأمر نجد أنَّ تجربة الولايات التي قررت قطع الاستحقاقات المعززة دحضت بالفعل حجة أنَّ تلك المخصصات كانت تقوض حوافز العمل.

أما حاملو الأسهم ومُلاك المنازل والأثرياء، فقد كان التعافي كريما معهم، فها هي الأسهم تسجل ارتفاعات قياسية، بينما ارتفعت أسعار المنازل بنسبة 25% مقارنة بأسعارها قبل عام مضى. كما يتواصل تنامي عدد أصحاب المليارات، مع ارتفاع إجمالي ثرواتهم بنسبة 62% منذ عام 2020. بشكل عام، استمر اتساع فجوات التفاوت، فيما تراجع الحراك الاقتصادي، تاركًا عددًا متزايدًا من الأميركيين في المؤخرة.

لذا تقترح خطة ميزانية الثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار استثمارات كبرى في البنية التحتية الاجتماعية لتغيير هذا المسار. تشمل تلك الاستثمارات 726 مليارًا لخدمات ما قبل الالتحاق بالمدرسة، ورعاية أطفال الأسر العاملة، وإنشاء كلية مجتمعية توفِّر تعليمًا مجانيًّا، وزيادة التمويل للجامعات والكليات المرتبطة تاريخيًّا بأصحاب البشرة السمراء، وتوسيع مظلة مِـنَـح بِل (Pell grants)، وتوفير الرعاية الصحية الأولية. هناك أيضًا أكثر من 300 مليار دولار مخصصة للإسكان العام، والصندوق الائتماني للإسكان، ودعم القدرة على تحمل تكاليف السكن، والمؤسَّسات الائتمانية للأراضي المجتمعية.

ولتشجيع نمو مستدام وعادل، تشمل الخطة 200 مليار دولار تقريبًا لتطوير طاقة نظيفة، إضافة إلى 135 مليارا للتصدي لحرائق الغابات وموجات الجفاف والتحديات الأخرى الناشئة عن (تغير) المناخ. مع تنامي الأدلة على الآثار الضارة لتغير المناخ، تضاءل الإنكار والمقاومة لسياسات التخفيف والتكيّف في الولايات المتحدة والعالم بأسره. وتُظهر استطلاعات للرأي أُجريت أخيرًا أنَّ أكثر من ثلثي الشعب الأميركي يطالبون الحكومة الآن ببذل المزيد من الجهد لمعالجة تغيُّر المناخ. ومع معاناة المزيد من المجتمعات من الآثار الضارة لتغير المناخ، يتنامى عدد الناخبين المنضمين لكبار المستثمرين في المطالبة بالتحرُّك الفعّال.

ستُموَّل خطة الثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار من خلال مزيج من الإيرادات الضريبية الجديدة، وتطبيق الضرائب المعزَّز، ومدخرات الرعاية الصحية، والإيرادات من النمو طويل الأجل. وتتمثل المصادر الرئيسة المدرّة للإيرادات في زيادة معدل ضريبة الشركات إلى مستوى 28%، ووضع حد أدنى عالمي لضريبة الشركات في نطاق 20%، ورفع معدلات الضرائب على الدخل الشخصي وأرباح رأس المال للأميركيين الأثرياء (أي هؤلاء من ذوي الدخول المستوجبة للضريبة التي تزيد على 400 ألف دولار). وتشير استطلاعات حديثة إلى وجود دعم قوي من جانب الناخبين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية لفرض زيادات ضريبية على كل من الشركات الكبرى وأصحاب الدخول المرتفعة.

يخلص تقرير حديث لشركة موديز أناليتيكس - التابعة لمؤسسة موديز - إلى أنه من شأن ميزانية الثلاثة تريليونات ونصف تريليون دولار وقانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية تسريع تعافي الاقتصاد إلى حد تحقيق التوظيف الكامل، وزيادة الوظائف بمقدار 20 مليون وظيفة، وتعزيز النمو طويل الأجل خلال العقد القادم، وهي أمور ستؤول معظم فوائدها إلى الأسر ذات الدخول المنخفضة والمتوسطة. فضلًا عن ذلك، فإنه حتى لو أدت تلك الخطط إلى زيادة العجز بشكل يفوق المتوقع، فلا يزال الوقت مواتيًا للغاية للحكومة الفدرالية كي تقترض لزيادة الاستثمارات في البنية التحتية، أخذا في الاعتبار العوائد المتوقعة وأسعار الفائدة المنخفضة بصورة غير عادية.

يعدُّ الاستثمار في البنية التحتية بمنزلة ضرب عصفورين بحجر واحد: ففي الأمد القريب، سيحفز الطلب من خلال تأثيرات مالية مضاعفة قوية، كما سيقوي أسس العرض من النمو الاقتصادي والتنافسية بمرور الوقت. ومن شأن خطط البنية التحتية التي ستُناقش هذا الشهر أن تثمر عن تلك المنافع للاقتصاد الكلي بطرق ستشجع أيضًا على تعظيم المساواة والتأقلم على مواجهة آثار تغير المناخ. يمتلك الكونجرس مفاتيح الولوج إلى مستقبل من النمو الشامل والمستدام لأميركا، وينبغي له الآن أن يستجمع شجاعته لاستخدامها.

ترجمة: أيمن أحمد السملّاوي    Translated by: Ayman A. Al-Semellawi

لورا تايسون شغلت سابقًا منصب رئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأميركي، وتعمل حاليًّا أستاذة في كلية الدراسات العليا التابعة لكلية هاس للأعمال، ورئيسة لمجلس أمناء مركز بلوم في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. ليني مِندونكا الشريك الفخري الأول في شركة ماكنزي آند كمباني، وشغل سابقًا منصبي كبير المستشارين الاقتصاديين والتجاريين لحاكم كاليفورنيا، جافين نيوسوم، ورئيس هيئة السكك الحديدية فائقة السرعة في ذات الولاية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org