هل يضعنا كوفيد-19 على الطريق الصحيح مع الطبيعة
روبرت سكيدلسكي
لندن- إن أحد الأشياء القليلة التي لم تتأثر بحقبة فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) هو هذا الكم الهائل من الأخبار عن الجائحة، وبالتأكيد نحن نتفهم أن الفيروس قد نتج عنه تدفق لا يتوقف من الأخبار عن انتشاره وتعليمات عن كيفية تجنبه والنجاة منه، إضافة إلى تحليل أسبابه وعلاجه وتخمينات عن تأثيره في أساليب العمل والصحة النفسية والاقتصاد والشؤون الجيوسياسية وغيرها الكثير.
إن فترة الاحتجاز المنزلي الخاصة بي قد نتج عنها التأملات التالية والتي أضيفها هنا مع شعوري بالتواضع أمام جوقة أصوات الخبراء.
بادىء ذي بدء، قرأت كتاب كلاوس ميوهان "كيف نجعل الصين عصرية" حيث لاحظ ميوهان أنه في علم الكونيات الصيني فإنَّ العوالم البشرية والطبيعة مرتبطة بشكل وثيق حيث كتب " عندما كان هناك احترام للنظام الصحيح، فإن العالم الطبيعي كان يسير بسلاسة وازدهر العالم البشري، ولكن عندما لم يعد هناك احترام لذلك النظام، حدثت وقائع غريبة ومدمرة مثل الزلازل أو الفيضانات أو الكسوف أو حتى الأوبئة".
بأي منطق يمكننا القول إن كوفيد-19 ربما كان نتيجة لعدم احترام النظام الصحيح للأشياء؟ إن النظام الصحيح في الفكر الصيني يتعلق بالحكم الصحيح، وهذا يتضمن المحافظة على العلاقة الصحيحة بين العوالم البشرية والطبيعية. إن جائحةً ما توحي بأن أسلوب عيشنا أصبح ينتهك تلك العلاقة.
تعتقد الخبيرة الصحية آلانا شيخ أنَّ من المؤكد سيكون هناك أوبئة كثيرة قادمة، نتيجة للطريقة التي نتفاعل فيها نحن البشر مع كوكبنا. إن هذا يتضمن ليس فقط الاحتباس الحراري الذي هو بفعل البشر، والذي يخلق بيئة خصبة لمسببات الأمراض، ولكن أيضاً اندفاعنا تجاه المساحات البرية المتبقية في العالم.
تقول آلانا شيخ: "عندما نحرق ونجرف الغابات المطيرة في الأمازون ... وعندما يتم تحويل آخر الغابات الإفريقية لمزارع، وعندما يتم اصطياد الحيوانات البرية في الصين لتصبح على وشك الانقراض، فإن هذا يعني أنه قد أصبح هناك اتصال بين البشر ومجموعات الحياة البرية التي لم يسبق لهم الاتصال بها من قبل".
إنَّ هذا يشمل اقترابنا أكثر من أي وقت مضى من الخفافيش والبنغول، وكلاهما يعدان مصدرين محتملين لكوفيد-19 وطالما فشلنا في احترام استقلالية الطبيعية فإنَّ الطبيعة سوف تنتقم.
إن بإمكان المرء أن يستخلص استنتاجات كبيرة أو صغيرة من طريقة التفكير تلك. إن الاستنتاج الذي تستخلصه آلانا شيخ هو استنتاج صغير وربما سبب ذلك أن الاستدلال الأوسع لا يحظى بقبول واسع عند معظم الناس. تقول آلانا شيخ نحن بحاجة إلى بناء نظام صحي عالمي يتمتع بالقدرة على تمكين البلدان من الاستجابة السريعة للأوبئة ومنعها من أن تتحول إلى جائحة. يجب على كل بلد أن يحدد ويحجر ويعالج مواطنيه المصابين بشكل فوري.
إن أحد الطرق لتحقيق ذلك باعتقادي هو أن تقوم حكومات مجموعة السبع بإصدار سند كوفيد-19 العالمي بحيث يتم تخصيص العوائد لمنظمة الصحة العالمية بعد إصلاحها وإعطائها تفويض محدد ببناء القدرات الطبية لجميع بلدان العالم لتصبح مثل مستويات الدول المتقدمة، على الرغم من أنه وباعتراف الجميع حتى القدرات الطبية للبلدان المتقدمة كانت غير كافية في مواجهة كوفيد -19. إن هذا الانفاق من قبل منظمة الصحة العالمية يجب أن يكون إضافياً للإنفاق التنموي من البنك الدولي.
إن هناك نقطة منطقية أخرى تذكرها آلانا شيخ وهي أن أنظمة طلب المستلزمات عند الحاجة هي أنظمة ممتازة عندما تكون الأمور تسير بشكر جيد، ولكن في وقت الأزمة فإن هذا يعني أنه ليس لدينا أي احتياطات. وهذا يعني أنه لو نفذت مسلتزمات الحماية الشخصية من مستشفى ما أو بلد ما ، فإنه يجب على ذلك المستشفى أو البلد أن يطلب من مورد (غالباً في الصين) وأن ينتظر أن ينتج هولاء الموردون تلك البضائع ومن ثم شحنها.
إن هذا التحليل النقدي ينطبق على ما هو أكثر بكثير من المشتريات الطبية، فهو يتحدى النظرية التقليدية في دنيا الأعمال والمتعلقة بالشراء عند الحاجة، حيث إنه طبقاً لتلك النظرية فإن الاحتياطات تكلف الأموال. والأسواق الفعالة لا تتطلب من الشركات أن يكون لديها مخزون من السلع، بل فقط ما يكفي لتلبية احتياجات الزبائن عند الطلب.
إن الاحتفاظ باحتياطات مالية من أجل الأيام العصيبة يعدُّ من التبذير، كذلك طبقاً لتلك النظرية، وذلك بسبب أنه في الأسواق الفعالة لا توجد أيام عصيبة وعليه يجب الاستفادة من الشركات إلى اقصى درجة.
إن هذا الطرح جيد طالما لا يوجد أحداث غير متوقعة، ولكن عندما يشهد العالم "صدمة" مثل الانهيار المالي الذي حصل سنة 2008 فإن نموذج السوق الفعال ينهار، ومعه ينهار الاقتصاد وهناك شيء مماثل يحصل حالياً لخدماتنا الطبية.
إن مفهوم الطلب عند الحاجة يجب أن يتم استبداله بمفهوم الطلب على سبيل الاحتياط، علماً بأنه من الأفضل أن تحتفظ هيئة دولية ما باحتياطي استراتيجي من التوريدات الطبية اللازمة لدعم الحياة لفترة محدودة (ثلاثة أشهر على سبيل المثال) في مواجهة مجموعة محددة من التهديدات للصحة العامة. يجب أن يتم تمويل ذلك الاحتياطي عن طريق فرض ضرائب على الحكومات بما يتناسب مع الدخل الوطني لبلدانها، ولكن مثل هذا التخزين يمكن أن يتم عمله أيضاً على مستوى البلد أو على المستوى الإقليمي، فعلى سبيل المثال يعدُّ الاتحاد الأوروبي مكاناً مثالياً للبدء بتطبيق ذلك.
لكن أي من ما ذكر لا يتعامل مع السؤال الأكبر بكثير والمتعلق بالعلاقة الصحيحة بين البشر والطبيعة. لقد عدد الكاتب المتخصص بالشؤون العلمية ستيفن بيترانك في محاضرة ألقاها سنة 2014 ثمانية أحداث يمكن أن تنهي العلم كما نعرفه وهي: الجائحة والتوهُّج الشمسي والزلازل الضخمة والثورات البركانية والحوادث البيولوجية، وتأثيرات غاز الدفيئة والحرب النووية والاصطدام بالشهب. إن أربعة من تلك الأحداث تعدُّ "كوارث طبيعية" أي أحداثاً كارثية غير ناتجة عن الطريقة التي ننظم بها حياتنا، ولكن الأحداث الأربعة الأخرى –الجائحة والأخطاء البيولوجية والحرب النووية والاحتباس الحراري- تعدُّ نتيجة مباشرة لطريقة تفاعل البشر مع الطبيعة.
إن فيروس كوفيد -19 والذي يبدو مخيفاً الآن قد ينتهي به المطاف لأن يكون فيروساً خفيفاً جداً، ويمكن السيطرة عليه بحيث يفشل في أن يحدث الصدمة المطلوبة لإجبارنا على التخلي عن عاداتنا وفي واقع الأمر يعتقد عالم النفس والحائز جائزة نوبل للاقتصاد دانيال كانمان أنه"لا يوجد أي قدر من التوعية النفسية ستتغلب على تردد الناس في خفض مستوى معيشتهم".
لكن سيكون من غير الحكمة الاستمرار في الاعتماد على الحلول التقنية لإخراجنا من المشكلات التي أوقعتنا بها أنماط حياتنا المسرفة، لأنه عاجلاً آم آجلاً سوف نستنفد الحلول الطبية لمشكلة "النظام الصحيح" حيث يجب علينا أن نستغل التوقف الحالي عن العمل المفروض علينا للتفكير في حلول ناجحة.
روبرت سكيدلسكي هو عضو في مجلس اللوردات البريطاني وهو أستاذ فخري للاقتصاد السياسي في جامعة وارويك.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org