هل يدوم التعافي؟

جيم أونيل

لندن ــ منذ الربيع الماضي، كان من الواضح في تصوري أنَّ تعافيًا سريعًا كبيرًا سيأتي في أعقاب الركود الذي أحدثته الجائحة، بفضل استجابات الحكومات الغربية المالية والنقدية الضخمة فضلًا عن ارتفاع احتمالات قدوم اللقاحات الـفَـعَّـالة. ومع استمرار تراكم الأدلة العلمية لصالح لقاحات جديدة معتمدة (وخاصة في وقت مبكر من هذا العام)، ارتفعت أيضًا احتمالية قدوم التعافي القوي.

كما أشرت سابقًا، كانت كل المؤشرات الدورية العالية التردد الأكثر جدارة بالثقة تُـظـهِـر أنَّ الانتعاش كان جاريًا بالفعل. فقد بدأ في الصين، ثمَّ أصبح مرئيًّا في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وبعد ذلك في معظم بلدان أوروبا القارية. وتعزز هذا الاتجاه أحدث بيانات التجارة في كوريا الجنوبية (الصادرة في بداية هذا الشهر)، مما يشير إلى نمو هائل على أساس سنوي بلغ 40% ــ وهو المكسب الأقوى من هذا القبيل طوال عشر سنوات على الأقل. ورغم أنَّ القاعدة الضعيفة في إبريل/نيسان 2020 تجعل هذا الرقم السنوي يبدو ضخمًا، فإنه يؤكد أنَّ التجارة العالمية تتعافى بقوة.

على الرغم من المؤشرات الأكثر تثبيطًا المسجلة هذا الشهر في الولايات المتحدة ــ حيث جاءت بيانات جداول الرواتب واستطلاع مديري المشتريات في إبريل/نيسان أقل كثيرًا من التوقعات ــ لا يزال العديد من محللي جانب البيع يعدلون تقديراتهم للناتج المحلي الإجمالي لعام 2021 صعودًا. لكن ماذا قد يأتي لاحقًا؟

يتمثل أحد العوامل المهمة في تشكيل مسار التعافي بطبيعة الحال في الأجزاء من العالم حيث لا تزال جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) مستعرة. فلا يزال عدد كبير من الاقتصادات النامية خاضعًا لضغوط كبيرة. تُـلَـخِّـص الحال في الهند الآن هذه المشكلة، وإن لم تكن الهند وحدها بكل تأكيد. ولا بدَّ أن يكون من الواضح للجميع الآن أنَّ البلدان التي تتصدر طرح اللقاحات ــ مثل بلدي المملكة المتحدة ــ لن تكون خالية من الفيروس قبل أن يتمَّ تطعيم سكان العالم بأسره. وكما رأينا في أستراليا ونيوزيلندا، ربما تتمكَّن أي دولة من السيطرة على الفيروس (ربما حتى بدون لقاحات)، ولكن فقط إذا كانت على استعداد لعزل ذاتها عن بقية العالم تمامًا ــ وهي استراتيجية لا يمكن الإبقاء عليها إلى أجل غير مسمّى.

من ناحية أخرى، في المملكة المتحدة، كان وصول الفيروس المتحور المقلق الذي يُـعتقَد أنه نشأ في الهند ــ B.1.617.2 ــ يعني أنَّ الأسابيع القليلة المقبلة ستزودنا بدليل حاسم حول استمرار فعالية لقاحي أسترازينيكا وفايزر ضد سلالات جديدة من الفيروس. ومن المرجح أن نشهد في الأشهر، وربما السنوات، المقبلة المزيد من هذه الاختبارات ضد المزيد من تحورات الفيروس.

في ظل هذه الظروف، لا أحد يستطيع أن يزعم أنَّ التعافي يقوم على أساس قوي. لكني ما زلت متفائلًا، استنادًا إلى الأدلة الأولية التي تشير إلى أنَّ اللقاحات ستظل على فعاليتها. علاوة على ذلك، يبدو أنَّ توزيع اللقاحات على الأجزاء الأدنى دخلًا من العالم مهيأ الآن للتسارع بشكل كبير في النصف الثاني من هذا العام.

إضافة إلى الفيروس المتحور على نحو مستمر، يتمثَّل خطرٌ متنامٍ آخر في تشديد الأوضاع المالية. على نحو يكاد يكون متوقعًا تمامًا، اكتسب القول الاستثماري المأثور "عجل بالبيع في مايو/أيار، ثم ارحل" مكانة بارزة هذا الشهر، نظرا للمخاوف بشأن التضخم ــ الجانب الآخر للتعافي الدوري القوي. في الولايات المتحدة، سجلت أسعار المستهلك في إبريل/نيسان ارتفاعًا بنسبة 4.2% على أساس سنوي، مما أدى إلى حالة من التوتر الشديد في الأسواق المالية.

في انسجام تام، وصف مسؤولو مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ارتفاع الأسعار على أنه مجرد حالة مؤقتة، وهذا يشير إلى أنهم يخطِّطون لتوخي الحذر بشأن السماح بأي تغيير في السياسة النقدية. لكن العديد من المشاركين في السوق غير مقتنعين بأنَّ الاحتياطي الفيدرالي قادر على التنبؤ بالتضخم بقدر أكبر من الدقة مقارنة بأي شخص آخر، أو أنه سيستمر في التمسك بموقفه الحالي.

هل هذه المخاوف مبررة؟ ربما تكمن الإجابة في مؤشر آخر راقبته طوال قسم كبير من حياتي المهنية: استطلاع توقعات التضخم لخمس سنوات الذي تجريه جامعة ميتشيجان. كثيرا ما يستشهد مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي أنفسهم بهذا المؤشر، لأنه يميل إلى كونه أكثر استقرارًا من مؤشرات أخرى. والجدير بالذكر أنه ارتفع أخيرًا، وبالتالي يجب مراقبته بعناية. وإذا تماسك عند مستوى أعلى من 3% أو تسارع بشكل أكبر، فأظن أنَّ الاحتياطي الفيدرالي قد يبدأ في تغيير رأيه.

إضافة إلى هذين العاملين المؤثرين في الأمد القريب، هناك أيضًا قوى بنيوية كبيرة قد تؤثر في جودة هذا التعافي، وخاصة إذا أفضت اختيارات سياسية بعينها إلى تفاقم خطر التضخم. في العديد من البلدان الغربية، ينتشر على نطاق واسع تصور ــ مبرر بالأدلة في أغلبه ــ مفاده أنَّ فجوة التفاوت في الدخل والثروة أصبحت شديدة الاتساع. وعلى هذا فسوف يخضع صانعو السياسات المنتخبون لضغوط قوية لحملهم على ملاحقة سياسيات إعادة التوزيع.

في حين أنَّ مثل هذه السياسات مبررة، فإنها في احتياج إلى تصميم جيد للمساهمة في، أو التزامن مع، إنتاجية أعلى في العديد من البلدان. وإذا لم يحدث هذا، فسوف تتسبب في إثارة المزيد من المخاوف في الأسواق المالية، حيث تشتد المخاوف بالفعل بشأن مستويات الإنفاق الحكومي الحالية.

نظرًا للارتفاع الهائل الذي شهدته أسواق السندات والأسهم منذ ربيع عام 2020، فإنَّ التقلبات اليوم ليست مفاجئة. أما عن أولئك الذين طبقوا نصيحة البيع في مايو/أيار، فسوف ينتظرون الآن سباق سانت ليجير للخيول في سبتمبر/أيلول. ففي ذلك الشهر، كما يزعم القول المأثور، يعود الهدوء.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

جيم أونيل رئيس مجلس إدارة جولدمان ساكس لإدارة الأصول سابقًا، ووزير خزانة المملكة المتحدة الأسبق، ورئيس تشاثام هاوس، وعضو لجنة عموم أوروبا لشؤون الصحة والتنمية المستدامة.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org