عالم حار ورياح معاكسة

مايكل سبنس

بورتوفينير، إيطالياـ منذ ثلاثة أشهر، بدا الاقتصاد العالمي وكأنه يسير على الطريق الصحيح نحو تحقيق انتعاش قوي نسبيًّا. فقد زادت إمدادات لقاحات كوفيد-19 في البلدان المتقدمة، وهو ما عزَّز الآمال في انتقالها إلى البلدان النامية في النصف الثاني من عام2021  حتى عام 2022. وسجلت العديد من الاقتصادات أرقامًا مذهلة في النمو بفضل إعادة فتح القطاعات التي أغلقت بسبب الأوبئة. ورغم أنَّ سلاسل التوريد المعلقة قد سبَّبت نقصًا في المدخلات الرئيسة وأدت إلى ارتفاع أسعارها، إلا أنها كانت تعدُّ مجرد مشكلات مؤقتة.

ويبدو العالم مختلفًا جدًا الآن. إذ ينتشر متحور دلتا بسرعة، بما في ذلك في البلدان المتقدمة وبين المجموعات التي كانت، حتى الآن، أقل عرضة للفيروس. إنَّ أجزاء العالم غير المحصنة- معظمها من البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى والبلدان المنخفضة الدخل- أصبحت الآن عرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى.

وفضلًا عن ذلك، تعرف سلسلة توريد اللقاحات تراجعًا. والسبب الرئيس هو أنَّ البلدان المتقدمة لديها عقود خيار لتشتري بموجبها أكثر مما تحتاجه من جرعات اللقاح (حتى بعد تقديم إفادات عن توسيع برامجها لتطعيم الشباب وإعطاء جرعات معززة). ويؤدي هذا إلى إطالة قائمة انتظار اللقاحات، ومن ثمَّ تأخير وصول اللقاحات إلى كثير من بلدان العالم النامي.

ويجب على العالم الغني أن يفرج عن "المخزون الزائد" ويتيح بيعه للبلدان الأخرى. ولن يكون برنامج تمويل مثل هذه المشتريات مكلفًا للغاية على مستوى العالم (في حدود60-70  مليار دولار)، وسيحقق فوائد فورية وطويلة الأجل فيما يتعلق بالسيطرة على الفيروس، ومنع ظهور متحورات جديدة خطيرة.

وهناك مشكلة أخرى وهي أنَّ سلاسل التوريد العالمية تعرضت لاضطراب أشد مما كان يُعتقد في السابق. ومن الواضح الآن أنَّ النقص الناتج- في العمالة وأشباه الموصلات (التي تستخدم في عدد لا يحصى من الصناعات) ومواد البناء، والحاويات، وقدرة الشحن- لن يتراجع في أي وقت قريب. وتشير الدراسات الاستقصائية إلى أنَّ الآثار التضخمية منتشرة في جميع القطاعات والبلدان، ومن المرجح أن تكون بمثابة رياح مستمرة تتجه عكس مسار الانتعاش والنمو.

وإضافة إلى حالة عدم اليقين، لم تُفهم جيدًا حتى الآن التحولات التي سَبَّبَها الوباء في سلاسل التوريد المحلية والعالمية، ومن المرجح أن تكون معالجتها مهمة صعبة. والواقع أنَّ الاضطرابات الناتجة عن الوباء لها نطاق أوسع، ويبدو أنَّ ما تمارسه من عبئ على الاقتصاد أقوى من الذي مارسته الحرب التجارية الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين.

ولكن أكثر التطورات التي فتحت أعنيننا في الأشهر الثلاثة الماضية كانت الزيادة الهائلة في تواتر الطقس المتطرف وشدته ونطاقه العالمي: العواصف، والجفاف، وموجات الحر، وارتفاع متوسط درجات الحرارة، والحرائق، والفيضانات. وفي وقت سابق من هذا الشهر، قدمت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ تقريرًا جديدًا وُصف بصراحة بأنه يعلن "الرمز الأحمر للبشرية". ويشير الحكم الجماعي للمجتمع العلمي إلى أنَّ التجربة القاسية التي مرت بها البشرية هذا العام ليست استثناءً؛ بل هي مناخ طبيعي جديد.

لذلك يمكننا أن نتوقع المزيد من نفس الأحداث القاسية (وربما ما هو أسوأ منها بكثير) خلال العشرين إلى الثلاثين سنة القادمة. إنَّ فرص منع الأحداث التي شهدناها هذا الصيف منعدمة. ويتمثل التحدي الذي نواجهه الآن في تسريع وتيرة الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، لنتجنب في العقود القادمة عواقب تغير المناخ الأكثر خطورة، والتي قد تشكل تهديدًا للحياة.

ونظرًا للرياح الاقتصادية والمناخية المعاكسة التي تواجه العالم، والتي ستهب على مدى أفق زمني أطول، فإنَّ النمو والتنمية في المستقبل في خطر. فإضافة إلى كون اضطرابات سلسلة التوريد عائقًا واضحًا أمام النمو، فقد تسهم اليوم في الضغوط التضخمية التي ستتطلب استجابة السياسة النقدية.

كذلك، سيعرقل الفيروس الذي يتحول ليصبح سمة شبه دائمة للحياة النمو والتخصص العالميين. وسيواصل التنقل العالمي نضاله من أجل التعافي. ورغم أنَّ المنصات الرقمية يمكنها أن تعمل كبدائل جزئية، فإنَّ عوائق التنقُّل ستضرب في النهاية جميع النظم البيئية الاقتصادية والمالية العالمية التي تدعم الابتكار.

وفي الماضي، كانت الظواهر الجوية المتطرفة نادرة الحدوث ومحلية بحيث لا تؤثِّر مخاطرها في توقعات الاقتصاد الكلي العالمي. ولكن النمط الجديد يبدو مختلفًا بالفعل. إذ من الصعب إيجاد منطقة ليست معرضة لمخاطر عالية مرتبطة بالطقس. وتحذر ورقة حديثة  لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من أن تغير المناخ يمكن أن يزيد من تواتر الانكماشات الاقتصادية وشدتها، مما سيؤدي إلى تراجع في النمو. وبصرف النظر عن الموارد المخصصة لتعزيز الانتعاش، يجب أن ينعكس هذا الواقع الجديد في نهاية في أسعار الأصول والتأمين.

وخلاصة القول هي أنَّ تغير المناخ سرعان ما أصبح عاملاً ملحوظًا في أداء الاقتصاد الكلي. وعلى الرغم من أننا نفتقر إلى مقاييس دقيقة للهشاشة الاقتصادية (أي المرونة في مواجهة الصدمات)، فمن غير المحتمل ألا نستنتج أنَّ الاقتصاد العالمي، وخاصة بعضًا من أجزائه الأضعف، أصبح أكثر هشاشة. إذ تواجه البلدان النامية منخفضة الدخل بالفعل تحديات كبيرة عندما يتعلق الأمر بالاتجاهات الديموغرافية، وتكييف نماذج النمو مع العصر الرقمي، وحل مشكلات الحوكمة المحلية. أضف إلى ذلك القيود المالية، والتقلبات والضغط المرتبط بالمناخ، والطابور الطويل الذي ينتظر اللقاحات، وكل هذه مقومات يمكن أن تحدث عاصفة حقيقية.

وستستمر الكثير من هذه الأحداث في مستقبلنا القريب. ولكن ليس كلها؛ فعلى سبيل المثال، يبدو أنَّ أسواق رأس المال تتكيف مع الواقع الجديد، كما أنَّ حل مشكلة إمدادات اللقاحات العالمية ليس شديد التعقيد ولا باهظ التكلفة. كل ما هو مطلوب هو التركيز والالتزام متعدد الأطراف.

وسيكون مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ كوب26  الذي سينعقد في غلاسكو في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري حاسماً، بل سيكون أصعب من مؤتمرات تغير المناخ السابقة. والهدف هو تعزيز الالتزامات الوطنية لإزالة الكربون التي تمَّ التعهد بها في باريس في كوب 21، بحيث يتوافق المجموع العالمي مع ميزانية الكربون التي تحد من الاحترار العالمي إلى1.5  درجة مئوية مقارنة بمستوى ما قبل الصناعة.

وختامًا، نظرًا لأنَّ الأحداث المناخية المتطرفة ستحدث بصورة متكررة وعالمية- وستضرب بصورة عشوائية في أي مكان تقريبًا- ستحتاج أنظمة التأمين الاجتماعي والخاص إلى ترقية كبيرة لتتكتسب نطاقًا متعدد الجنسيات. وقد نحتاج إلى مؤسَّسة مالية دولية جديدة لتتولى هذا الأمر، وتعمل بصورة وثيقة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

ترجمة: نعيمة أبروش   Translated by Naaima Abarouch

مايكل سبنس، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، هو أستاذ فخري بجامعة ستانفورد وكبير زملاء معهد هوفر.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org