الصين وحتمية تبنّي العمل عن بُـعـد

نانسي تشيان

شيكاغو ــ قبل الجائحة، كانت الشركات والعمال في مختلف أنحاء العالم يستخدمون البريد الإلكتروني والمحادثات الهاتفية الجماعية لتقليل تكاليف الاتصال. لكن الافتقار إلى التنسيق جعل استخدام هذه التكنولوجيات أمرًا بالغ الصعوبة. كانت كتابة رسالة بريد إلكتروني أمرًا سهلًا، لكن لم يكن هناك ما يضمن متى يرد عليها الشخص الآخر. كان الناس عازفين عن كسر العادات القديمة. فربما يفسّر المشاركون في اجتماع افتراضي قرار عقده عبر الإنترنت على أنه يعني أنَّ موضوعه ليس مهمًّا. في عموم الأمر، عمل انخفاض الطلب على تثبيط تطور المنتجات، الأمر الذي أدى إلى تجاهل الكثير من العناصر المرغوبة التي كان من الواجب أن تشتمل عليها العديد من تطبيقات أماكن العمل.

من خلال إجبار قطاعات اقتصادية بأكملها على العمل الافتراضي، نجحت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في حل العديد من مشكلات التنسيق السابقة هذه. فقد اضطر الجميع في هذه القطاعات إلى الاستثمار في تكنولوجيات جديدة وتعلُّم كيفية استخدامها. ولأن الجميع أصبحوا في ذات القارب، فلم يعد خطر تفسير الاجتماع الافتراضي في ضوء سلبي واردًا. الأفضل من هذا هو أنَّ استخدام تطبيقات محل العمل أصبح أكثر سهولة بمرور كل أسبوع.

في الولايات المتحدة، تبنّت شركات مثل جوجل وهيئات حكومية مثل مجلس الاحتياطي الفيدرالي أماكن العمل الافتراضية وأعلنت أنَّ عددًا كبيرًا من موظفيها سيستمرون في العمل عن بُـعد بعد انقضاء الجائحة. وهذا أمر منطقي: حيث تخفض الشركات نفقاتها العقارية، ويكتسب الموظفون المزيد من المرونة في جداول أعمالهم واختيارهم لمكان معيشتهم. علاوة على ذلك، يعني تناقص عدد ركاب وسائل النقل تقليل تلوث الهواء وازدحام المناطق الحضرية.

على النقيض من ذلك، في الصين، تمكَّنت قطاعات عديدة من العمل بشكل طبيعي نسبيًّا خلال العام الماضي. ونتيجة لهذا، لم يطرأ أي تحوُّل على عمليات البيع بالجملة نحو العمل الافتراضي ولم نشهد أي مناقشات حول نماذج جديدة لأماكن العمل في عصر ما بعد الجائحة. من عجيب المفارقات هنا أنَّ المزايا التي تجازف الصين بالتخلي عنها ستكون أعظم فائدة لاقتصادها من نظيراتها في الولايات المتحدة أو أوروبا.

على سبيل المثال، من الممكن أن تعمل التكنولوجيات الافتراضية على تقليل تكلفة المعيشة لصالح عدد كبير من العمال. إنَّ تنشئة الأطفال في المناطق الحضرية في الصين مكلفة للغاية. في شنغهاي، تبلغ تكلفة العقارات السكنية 1453 دولارًا في المتوسط لكل قدم مربع في وسط المدينة، لكن متوسط دخل الأجر السنوي لموظف بدوام كامل يبلغ نحو 12 ألف دولار فقط. الأسوأ من ذلك أنَّ المحترف العادي في هذه المناطق يعمل من التاسعة صباحًا إلى التاسعة مساءً ستة أيام في الأسبوع ــ 72 ساعة عمل أسبوعيًّا.

إذا قارنا هذا مع مدينة نيويورك، حيث يبلغ متوسط سعر العقارات السكنية 1438 دولارًا للقدم المربع، ويبلغ متوسط الدخل السنوي 74834 دولارًا، ومتوسط أسبوع العمل 43 ساعة، فسوف يتبين لنا أنَّ سكان الحضر في الصين يتعيَّن عليهم أن يعملوا أكثر من نظرائهم الأميركيين لكسب دخل أقل كثيرًا مع تحمُّل أسعار مساكن مماثلة.

على ذات المنوال، يواجه الآباء الصينيون في المناطق الحضرية أيضًا نُـدرة حقيقية في الوقت. لأنَّ طالب المدرسة الابتدائية المتوسط في الصين يقضي سبع عشرة ساعة أسبوعيًّا في أداء الواجبات المنزلية ونحو ست ساعات أسبوعيًّا مع المعلمين، يحتاج الآباء إلى الكثير من الوقت لتدليل أطفالهم ومراقبتهم (ويزداد الـحِـمل إذا كان عليهم اصطحابهم إلى أنشطة الدعم أو التدريس الإضافي). ومن الواضح أنَّ العمل عن بُـعد من الممكن أن يُـحدِث كل الفارق بالنسبة إلى كثيرين.

علاوة على ذلك، يُـعَـدُّ تلوث الهواء في المناطق الحضرية في الصين أسوأ من أي بلد آخر تقريبًا، حيث تسبّب في وفاة ما يقدر بنحو 1.24 مليون شخص في عام 2017. وفي بعض الأحيان، تكون جودة الهواء غير آمنة إلى الحد الذي يستوجب إغلاق المدارس. في عام 2016، استعاضت الصين عن سياسة الطفل الواحد بسياسة الطفلين لكل المناطق الحضرية في الصين. كما بدأ العمل بالفعل بسياسات أخرى في دعم الأسر، مثل المدارس العامة المنخفضة التكلفة وتوفير مرافق الصحة العامة. وعلى الرغم من هذه التدابير، تشير البيانات المسجلة أخيراً إلى أنَّ معدل المواليد في البلاد، وخاصة في المناطق الحضرية، انخفض إلى أدنى نقطة على الإطلاق في نصف قرن من الزمن.

لمعالجة مشكلة التلوث، كانت الحكومة تعمل بشكل مضطرد على نقل شركات الصناعات الـمُـلَـوِّثة إلى خارج المدن الكبرى، في حين فرضت الضرائب على ملكية السيارات بكل طريقة ممكنة. يكلف لتر البنزين نحو دولار واحد (نحو 4 دولارات للجالون) في بكين، مقارنة بـ 0.90 من الدولار في نيويورك. وتبلغ تكلفة لوحة الترخيص في شنغهاي نحو 14 ألف دولار مقارنة بنحو 25 دولارًا في نيويورك. ولتقليل استخدام السيارات بدرجة أكبر، استثمرت الصين أكثر من 1.3 تريليونات دولار منذ عام 2000 في السكك الحديدية لبناء واحدة من أفضل شبكات النقل العام الحضرية على مستوى العالم.

مع ذلك، لم تكن هذه السياسات كافية للتعويض عن الزيادة السريعة التي تشهدها الصين في عدد سكان الحضر القادرين على شراء سيارة والراغبين في القيادة إلى العمل. ورغم أنَّ الناتج المحلي الإجمالي في الصين سجل نموا بلغ 9.2% سنويًّا في المتوسط خلال الفترة من 2000 إلى 2018، فقد ازداد عدد سكان المناطق الحضرية هناك من 453 مليون نسمة إلى 824 مليون نسمة خلال ذات الفترة، بما في ذلك ست مدن صينية يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين نسمة.

الترويج لأماكن العمل الافتراضية من الممكن أن يساعد على التصدي للتحديات الديموغرافية والبيئية التي تواجه الصين. السبب وراء انخفاض معدل الخصوبة واضح؛ فتربية الأطفال مكلفة للغاية. ومن الواضح أنَّ المزيد من العمل عن بُـعد من شأنه أن يؤدي إلى خفض تكلفة تربية الأطفال والإسكان من خلال تمكين المزيد من الأسر من الانتقال بعيدًا عن وسط المدينة. وسيصبح بوسع الآباء المتحررين من ضرورة الانتقال إلى أماكن العمل قضاء وقت أطول مع أطفالهم. وانخفاض عدد الركاب من شأنه أن يقلل من تلوث الهواء.

الواقع أنَّ الشركات الصينية التي جربت العمل عن بُـعد وجدت أنَّ إنتاجية بعض أنماط العمل متشابهة بصرف النظر عن مكان تنفيذها. وقد أظهرت الجائحة بالفعل العديد من الفوائد البيئية المترتبة على تقليل التنقل. لضمان عدم زيادة ملكية السيارات في الانتقال إلى الضواحي خلال فترة ما بعد كوفيد-19، يجب على الحكومة أن تعمل على توسيع نطاق توفير وسائل النقل العام في هذه المناطق.

ربما يكون العمل الافتراضي المتزايد طريقة إبداعية لمعالجة مشكلتين من أكبر مشكلات الصين ــ تراجع معدل الخصوبة وجودة الهواء في المناطق الحضرية. وينبغي لصنّاع القرار والشركات في الصين السماح للمزيد من الموظفين بالعمل عن بُـعد قدر الإمكان. إنها استراتيجية منخفضة التكلفة ويمكن تنفيذها بمرونة، وفقًا للاحتياجات الفردية للشركات والعمال. وقد تكون الفوائد الاقتصادية والاجتماعية المحتملة هائلة.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

نانسي تشيان أستاذ علوم الاقتصاد الإداري واتخاذ القرار في كلية كيلوج في جامعة نورث وسترن، وهي مديرة مختبر الصين.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org