هيمنة الدولار الهشة

كينيث روجوف

كمبريدج ــ يواصل الدولار الأميركي المشهور بقوته سيطرته المطلقة في الأسواق العالمية. لكن ربما كانت هيمنة العملة الخضراء أكثر هشاشة مما يبدو، نظرًا لاحتمالية أن تُحدث التغيرات المستقبلية المتوقعة في نظام سعر الصرف الصيني تحولًا كبيرًا في النظام النقدي الدولي.

لأسباب كثيرة، قد تتوقَّف السلطات الصينية يومًا ما عن ربط الرينمبي بسلة عملات، لتتحول إلى نظام حديث يستهدف التضخم، ويُــتاح بموجبه قدر أكبر بكثير من حرية التأرجح لسعر الصرف، لا سيما أمام الدولار. عندما يحدث ذلك، توقع أن تسير معظم دول آسيا وراء الصين. وفي الوقت المناسب، قد ينتهي الأمر بالدولار، الذي يمثل حاليًا عملة الارتكاز لنحو ثلثي الناتج المحلي الإجمالي العالمي، إلى فقدان نصف قيمته تقريبًا.

قد يكون أثر مثل هذا التحوُّل كبيرًا، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار مدى اعتماد الولايات المتحدة على الوضع الخاص للدولار - أو "الامتياز الباهظ" الذي تتمتَّع به أميركا، بحسب الوصف الشهير لفاليري جيسكار ديستان وقت أن كان وزيرا لمالية فرنسا - لتمويل الاقتراض العام والخاص الضخم. ونظرًا لإفراط الولايات المتحدة الشديد في استخدام التمويل بالعجز لمجابهة الآثار التخريبية لمرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، فلا يُستبعد أن تنشأ شكوك بشأن استدامة دَيْنها.

تتمثل الحجة التقليدية الراسخة التي تدعم إتاحة مزيد من المرونة للعملة الصينية في كون الصين أكبر كثيرا من أن تدع اقتصادها يسير تبعًا لأهواء مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، حتى مع هذا القدر من الانعزال الذي تخلقه الضوابط الصينية على رؤوس الأموال. فقد تخطى الناتج المحلي الإجمالي للصين (مقيسًا بالأسعار الدولية) الناتج المحلي الإجمالي الأميركي في عام 2014، ولا يزال ينمو بوتيرة أسرع كثيرًا من نظيره في الولايات المتحدة أو أوروبا، مما يجعل الدعوة لمرونة أكبر في أسعار الصرف أكثر إقناعًا ووجاهة.

ثمة حجة أحدث تقول إنَّ مركزية الدولار تتيح لحكومة الولايات المتحدة إمكانية الوصول بشكل كبير للغاية لمعلومات بشأن المعاملات الدولية، وهو الأمر الذي يمثل أيضًا شاغلًا كبيرًا لأوروبا. بشكل مبدئي، يمكن تسوية المعاملات أو الصفقات بالدولار في أي مكان بالعالم، لكن البنوك وغرف المقاصة الأميركية تتمتع بميزة طبيعية كبرى، حيث تُدعَّم ضمنيًّا (أو حتى صراحة) من قِبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي لديه سلطة مطلقة لإصدار العملة خلال أي أزمة. في المقابل، تكون أي غرفة مقاصة لتسوية المعاملات بالدولار خارج الولايات المتحدة أكثر عرضة دومًا لأزمات الثقة، وتلك مشكلة جابهتها منطقة اليورو ذاتها.

فضلًا عن ذلك، لا يُنتظر أن تتوقَّف سياسات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الهادفة لكبح هيمنة الصين التجارية في أي وقت قريب. وتلك إحدى القضايا القليلة التي يتفق عليها الديمقراطيون والجمهوريون بشكل عام، أمّا احتمالية تسبب تفكيك العولمة التجارية في تقويض الدولار فهي محدودة.

يواجه واضعو السياسات في الصين عوائق كثيرة في محاولتهم التخلص من التثبيت (الربط) الحالي لسعر الرينمنبي، وإن كانوا شرعوا في وضع الأساس لذلك على جبهات كثيرة بطريقة مميزة. فقد سمحت الصين تدريجيًّا لمؤسسات الاستثمار الأجنبية بشراء سندات بعملة الرنمينبي، كما أضاف صندوق النقد الدولي عام 2016 الرنمينبي إلى سلة العملات الرئيسة التي تحدد قيمة حقوق السحب الخاصة (وهي الأصول الاحتياطية الدولية للصندوق).

إضافة إلى ذلك، سبق بنك الشعب الصيني بأشواط غيره من البنوك المركزية الكبرى في تطوير عملة رقمية مركزية. ورغم اقتصار هذه العملة الرقمية التي يصدرها بنك الشعب الصيني على الاستخدام المحلي حاليا، فسوف تسهم في تسهيل استخدام الرنمينبي دوليًّا، لا سيما في البلدان التي تنجذب نحو تكتل مرتقب للعملة تقوده الصين، وهو ما سيوفر للحكومة الصينية نافذة للاطلاع على معاملات مستخدمي عملة الرنمينبي الرقمية، تمامًا كما يعطي النظام الحالي الولايات المتحدة إمكانية الاطلاع على قدر كبير من معلومات مماثلة.

لكن هل ستسير الدول الآسيوية الأخرى حقًّا وراء الصين؟ لا شكَّ أنَّ الولايات المتحدة ستضغط بقوة للإبقاء على دوران أكبر عدد ممكن من الاقتصادات في فلك الدولار، لكنها ستكون معركة شاقة. فكما غطت الولايات المتحدة وتفوقت على بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر كأكبر قوة تجارية في العالم، فاقت الصين الولايات المتحدة بذات الطريقة منذ وقت طويل.

أجل، قد تتخذ كل من اليابان والهند مسلكًا خاصًّا بها، لكن إذا أقدمت الصين على جعل الرنمينبي أكثر مرونة، فقد تولي الدولتان - على أقل تقدير - أهمية لتلك العملة مقارنة بأهمية الدولار في احتياطياتهما من النقد الأجنبي.

هناك أوجه تشابه لافتة بين انحياز آسيا الواضح للدولار اليوم والوضع في أوروبا في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي. لكن تلك الحقبة انتهت بتضخم مرتفع وانهيار نظام بريتون وودز الخاص بتثبيت أسعار الصرف، وهو نظام ظهر بعد الحرب. حينها اعترفت معظم دول أوروبا بأن التجارة بين بلدان أوروبا أهم من التجارة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي أفضى إلى ظهور كتلة المارك الألماني التي تحولت بعد عقود إلى العملة الموحدة، وهي اليورو.

غير أنَّ هذا لا يعني أن الرنمينبي الصيني سيصبح العملة العالمية بين عشية وضحاها، إذ قد تستغرق التحولات من عملة مهيمنة إلى أخرى زمنًا طويلًا. فخلال العقدين بين الحربين العالميتين الأولى والثانية مثلاً، كان الداخل الجديد، وهو الدولار، يتمتع بالنسبة لاحتياطات البنوك المركزية بذات الأهمية تقريبًا التي حظي بها الجنيه الإسترليني، الذي كان العملة العالمية المهيمنة لأكثر من قرن عقب حروب نابليون في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر.

إذًا ما المشكلة في أن تتقاسم العملات العالمية الثلاث - اليورو والرنمينبي والدولار - الأضواء؟ لا شيء غير ما يبدو من عدم استعداد الأسواق أو واضعي السياسات لمثل هذا التحول على الإطلاق. لا شكَّ أنَّ معدلات اقتراض الحكومة الأميركية ستتأثر غالبًا بمثل هذا التحول، لكن التأثير الكبير حقًّا قد يقع على الشركات المقترضة، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.

لقد صار الافتراض بنهم شهية العالم للديون الدولارية اعتقادًا راسخًا فيما يبدو بين واضعي السياسات وكثير من الاقتصاديين الأميركيين اليوم. لكن مجرد تحديث ترتيبات أسعار الصرف في الصين كفيل بتوجيه ضربة موجعة لوضع الدولار.

ترجمة: أيمن أحمد السملاوي    Translated by: Ayman A. Al-Semellawi

كينيث روجوف كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقًا، وأستاذ علوم الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021
www.project-syndicate.org