مقياس استقلالية الهيئات التنظيمية المالية

هاورد ديفيز

لندن ــ بوسعنا أن نجد قدراً كبيراً من الأعمال الأكاديمية حول استقلالية البنوك المركزية، كما يتناول محافظو البنوك المركزية هذا الموضوع في كل فرصة. تزعم أغلب الأبحاث الأكاديمية، وكل المحافظين، أنَّ درجة عالية من الاستقلالية ترتبط بانخفاض التضخم والاستقرار النقدي.

تشكك بعض هذه الدراسات الأكاديمية في اتجاه العلاقة السببية، فتتساءل حول ما إذا كانت البلدان التي يكره مواطنوها التضخم بشدة ــ ألمانيا هي المثال الأكثر وضوحاً هنا ــ تميل إلى تفضيل الاستقلالية القوية. لكن الأمر لا يخلو من دعم واسع النطاق لفرضية عامة مفادها أنَّ إخراج السياسيين من عملية تحديد أسعار الفائدة يرتبط بتضخم أقل وأكثر استقراراً. هناك أيضاً الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن الدورة الانتخابية كانت تؤثر، سابقاً، في قرارات أسعار الفائدة، وكانت العواقب وخيمة.

كان قدر أقل كثيراً من الاهتمام موجها إلى استقلالية الهيئات التنظيمية المالية، وخاصة الهيئات المشرفة على العمل المصرفي. بطبيعة الحال، تشكل العديد من الهيئات المشرفة على العمل المصرفي جزءا من البنوك المركزية، لكنها ليست كلها كذلك بكل تأكيد.

يعمل نحو ثلث البلدان التي لديها أنظمة مصرفية ذات وزن مع مشرفين من خارج البنك المركزي. يصدق هذا على السويد، واليابان، وأستراليا، على سبيل المثال. وفي بعض الحالات، تُـطَـبَّـق أنظمة مستقلة مختلفة على السياسة النقدية والإشراف، حتى عندما يكون كلاهما ملحقاً داخل البنك المركزي.

تشكل مسألة مدى استقلالية المشرفين على البنوك أكثر من مجرد أهمية نظرية. إذ يُـعَـد الاستقلال التنظيمي والإشرافي أحد مبادئ لجنة بازل للإشراف المصرفي الأساسية. ومع ذلك، يحظى هذا المبدأ، وفقاً لصندوق النقد الدولي، بأدنى مستوى من الامتثال في مختلف البلدان التي يراجعها الصندوق.

كان افتقار المشرفون على العمل المصرفي الملحوظ إلى الاستقلالية في بعض بلدان منطقة اليورو أحد الأسباب وراء إنشاء الاتحاد المصرفي للاتحاد الأوروبي. وهناك من الأدلة ما يشير إلى أنَّ البنوك التي ينطوي عملها على ارتباط مباشر بعالم السياسة كانت خاضعة لإشراف متساهل وكان أداؤها سيئا بشكل خاص في الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008. وكانت ديونها الرديئة أعلى من كل التوقعات.

في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، ظهرت تساؤلات حول قُـرب المشرفين الألمان من وزارة المالية الألمانية. فبعد فضيحة المحاسبة التي تسبَّبت في إفلاس شركة Wirecard لمعالجة المدفوعات والخدمات المالية، أشارت هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية إلى "خطر متعاظم يتمثل في نفوذ متزايد من قِـبَـل وزارة المالية نظرا لتكرار الإبلاغ وتفاصيله في قضية Wirecard.

على هذه الخلفية، أنتج بنك إنجلترا بحثاً جديداً، في الوقت المناسب، حول الصلة بين الاستقلالية التنظيمية والاستقرار المالي. ينشئ القائمون على هذا البحث مؤشراً جديداً للاستقلالية يشبه المؤشرات المستخدمة في مجال السياسة النقدية، لكن مع وجود اختلافات في بعض المجالات.

يتضمن بحث بنك إنجلترا إجراءات تعين رئيس الهيئة التنظيمية: هل توجد درجة من الاستقلالية في هذه العملية؟ وما هي مدة ولاية الرئيس؟ وما مدى سهولة فصله من منصبه؟

يدرس القائمون على البحث أيضاً قدرة المشرف على فرض الضوابط التنظيمية دون الحصول على موافقة سياسية، كما يفحصون عملية الميزانية. من الممكن أن يمول بعض القائمين على الإشراف أنفسهم من خلال سلطة فرض الرسوم على الشركات الخاضعة للتنظيم؛ ويحتاج آخرون إلى الذهاب في خنوع إلى الحكومة أو الهيئة التشريعية للحصول على المال، مما يخلق إمكانية ممارسة الضغوط السياسية من جانب البنوك لحرمان الهيئة التنظيمية من الأموال.

بعد إنشاء المؤشر، يفحص القائمون على البحث ما إذا كان الاستقلال الإشرافي يرتبط ارتباطاً إيجابيا بالاستقرار المالي. مقارنة بالاستقرار النقدي، يُـعَـدُّ الاستقرار المالي مفهوماً مراوغاً. نحن نميل إلى اكتشاف غيابه بشكل مؤلم للغاية، لكن محاولات تطوير مؤشرات تدلل على وجوده أثبتت كونها بالغة الصعوبة. تشرح مؤشرات عديدة الأزمة الأخيرة بشكل جيد، لكنها أقل فائدة بعض الشيء في التنبؤ بالأزمة التالية.

بوصفه معبراً عن مدى الاستقرار المالي، يختار القائمون على دراسة بنك إنجلترا مستوى القروض المتعثرة في النظام المصرفي. قد لا يكون مقياساً مثالياً، لكنه يتميز بأنه متاح، على أساس قابل للمقارنة على نطاق واسع، عبر مجموعة من البلدان ولعدد كبير من السنوات.

يُـفضي تخطيط المجموعتين من البيانات مقابل بعضهما بعضاً إلى التوصل إلى استنتاجات قوية. على مدى السنوات العشرين الأخيرة، شهدنا زيادة مضطردة في الاستقلال الإشرافي. وعلى حدِّ تعبير القائمين على البحث: "ترتبط الإصلاحات التي تحقق قدراً أكبر من الاستقلال التنظيمي والإشرافي بانخفاض حجم القروض المتعثرة على ميزانيات البنوك العمومية. وفي مجمل الأمر، تُـظـهِـر النتائج التي توصلنا إليها أنَّ زيادة استقلالية الهيئات التنظيمية والإشرافية مفيدة للاستقرار المالي".

علاوة على ذلك، يقدم القائمون على البحث الدليل على أنَّ الإشراف الأكثر صرامة المرتبط بالمشرفين المستقلين لا يؤثر سلباً في كفاءة أو ربحية النظام المصرفي. قد يكون من المعقول أن ينزعج المرء إزاء حقيقة مفادها أنَّ الإشراف الأكثر صرامة قد يفرض قيودا مكلفة، ومع ذلك لا يبدو أن هذه هي الحال. الواقع أنَّ كفاءة أي بنك، إذا جرى تعريفها على أنها نسبة التكلفة إلى الدخل، تميل إلى التحسُّن عندما يصبح المشرفون أكثر استقلالية. ولا يصاحب هذا أيَّ تأثيرٍ سلبيٍّ في أرباح البنوك.

ما الذي قد لا يكون مرغوباً إذاً؟ هل نحن في منطقة "الغداء المجاني"؟

ليس بالضبط. فلا يخلو الأمر من عيب واحد قد يربك السياسيين. من الواضح أنَّ العلاقة بين الاستقلالية وكم الإقراض المصرفي سلبية. بعبارة أخرى، إذا كان المشرفون المستقلون أكثر صرامة، فإنَّ البنوك تميل إلى الإقلال من الإقراض بعض الشيء. وقد لا يكون حجم التأثير دراميا، لكنه سلبي وهذا مهم.

من المحتمل أن يكون هذا التأثير انتقالياً وقد يتلاشى مع الحفاظ على المزيد من الإشراف المنضبط. علاوة على ذلك، فإنَّ الإقراض الذي لم يحدث ربما كان ليذهب إلى شركات غير قادرة على البقاء أو مستهلكين منهكين. وليس من الواضح أنَّ مثل هذا الإقراض مفيد بشكل خاص للنمو والإنتاجية.

في المجال العام على الأقل، لم يكتسب الاستقلال التنظيمي والإشرافي السمعة التي اكتسبتها استقلالية البنوك المركزية. فلا يُـشار إليه بمختصر شائع الاستخدام على سبيل المثال. إذا استخدمنا المختصر RSI (Regulatory and Supervisory Independence) فسوف ينصرف ذهن المستمع إلى المصطلح (Repetitive Strain Injury) بمعنى (الإصابة الناتجة عن إجهاد متكرر). الحق أنَّ البحث الذي أجراه بنك إنجلترا يشكل حجة قوية لصالح تغيير هذه الحال.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

هاورد ديفيز رئيس مجموعة NatWest.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.projecrt-syndicate.org