أزمة اقتصادية تتفاقم ببطء في تركيا

سيلفا ديميرالب ؛ شبنم كاليمالي أوزكان

إسطنبول/واشنطن العاصمة ــ لم يكن من المفاجئ أو المستغرب أن نشهد المحن الاقتصادية والمالية التي ألمت بتركيا أخيراً؛ إذ كانت فصول الأزمة الثلاثية التي تعيشها البلاد (العملة، والصناعة المصرفية، والديون السيادية) تتوالى لسنوات. تُـرى هل تستحث هذه الاضطرابات الاقتصادية اضطرابات سياسية؟ هذا السؤال محل مناقشة تدور على نطاق واسع الآن.

كان التضخم المرتفع الذي طال أمده وفجوة العجز المتزايدة الاتساع يطاردان الاقتصاد التركي حتى قبل اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). فعلى مدار عشر سنوات، تجاوزت توقعات التضخم هدف 5% بأكثر من النصف. وكانت قيمة الليرة التركية في انخفاض مستمر مقابل الدولار الأميركي منذ أواخر عام 2017، مع انخفاض بلغ 20% في أغسطس/آب 2018. وأفضت الجهود العنيفة لتكييف السياسات خلال الجائحة، وتركيبة غير مستدامة من السياسات التي اعتمدت على النمو الائتماني المفرط، فضلاً عن بيع احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي للتعويض عن تدفقات رأس المال إلى الخارج، إلى توليد المزيد من نقاط الضعف. وأدى هذا إلى خسارة 40% أخرى من قيمة الليرة منذ يناير/كانون الأول الماضي.

(الرسم البياني رقم 1)

في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، عَـيَّـن الرئيس رجب طيب أردوغان وزيراً جديداً للمالية ومحافظاً جديداً للبنك المركزي. وفي أعقاب ذلك، خضع إطار السياسة النقدية في تركيا لعملية تطبيع طال انتظارها (مع ارتفاع تراكمي لسعر الفائدة بلغ 675 نقطة أساس في غضون شهرين)، واستعادت الليرة 10% من قيمتها المفقودة بحلول نهاية العام.

(الرسم البياني رقم 2)

أبقت تركيا على تعويمها لسعر الصرف منذ عام 2001، عندما اضطرتها الأزمة المصرفية وأزمة الديون السيادية وميزان المدفوعات إلى التخلي عن ربط الليرة بسلة عملات تتألف من الدولار واليورو. وتبنَّت تركيا نظام استهداف التضخم، والذي بموجبه لا يجوز تعديل الأسعار التي تحددها السياسة لهندسة خفض قيمة العملة أو رفع قيمتها، أو في الاستجابة لصدمات خارجية ــ مثل كوفيد-19 ــ والذي أدى إلى تدفُّق رأس المال إلى الخارج.

تتطلع الأسواق المالية إلى المستقبل وتعلم أنَّ التضخم لا يمكن إدارته إلا من خلال سياسة نقدية جديرة بالثقة. لماذا إذن لم تضع الأسواق انخفاض قيمة الليرة الحاد في الحسبان قبل ذلك بمدة طويلة؟ تكمن الإجابة في أهمية تداعيات السياسة النقدية الأميركية على الأسواق الناشئة. كانت السيولة العالمية بالدولار التي خلقتها أسعار الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة تعني ضمناً سهولة وصول بنوك الأسواق الناشئة إلى العملات الأجنبية، بما في ذلك بتكاليف إقراض منخفضة.

بوضع هذه الحقيقة في الاعتبار، يتبيَّن لنا أَّن أزمة تركيا التي تتفاقم ببطء يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل. خلال مرحلة ما قبل كوفيد-19، كانت قيمة الليرة تنخفض ببطء بسبب عدم معالجة المشكلات البنيوية التي أحدثت هذا الانخفاض ولم يكن استهداف التضخم أولوية عالية. فبفضل قدرة البنوك التركية على الاقتراض بسهولة في الأسواق الدولية، استُـبـعِـد احتمال انخفاض أكثر حِـدة في قيمة العملة.

بدأت المرحلة الثانية من الأزمة عندما اندلعت الأزمة في مارس/آذار 2020. في مستهل الأمر، استجابت تركيا (مثلها في ذلك كمثل بلدان أخرى) بالتيسير النقدي والمالي. لكن السياسة النقدية التوسعية سرعان ما بلغت حدودها القصوى. وتسبَّب انخفاض أسعار الفائدة إلى ما دون معدل التضخُّم الذي ارتفع إلى خانة العشرات إلى الدولرة (التحوُّل إلى الدولار)، وأدى العزوف المحلي والأجنبي عن شراء الأصول المقومة بالليرة التركية إلى انخفاض أكثر حدة في قيمة العملة، وهو ما حاولت تركيا كبحه ببيع ما يقرب من 130 مليار دولار من احتياطيات العملة الأجنبية، لكن المحاولة باءت بالفشل.

ولكن حتى لو كان البنك المركزي في جمهورية تركيا يحتفظ بقدر أكبر من احتياطيات العملة الأجنبية لدعم الليرة، فما كانت النتيجة لتختلف. في نهاية المطاف، كانت العملة لتخضع حتماً إلى تصحيح حاد بمجرد تسعير الأسواق المالية للمخاطر في تركيا، إضافة إلى مخاطر العملة. فالدولة التي تنفد احتياطياتها من العملات الأجنبية تستطيع، من حيث المبدأ، الاقتراض في الأسواق الدولية ومواصلة التدخُّل لإدارة تقلبات عملتها. في حقيقة الأمر، في أوقات عدم اليقين العالمي المتزايد، يكون الاقتراض بالعملات الأجنبية أرخص من الاقتراض بالعملة المحلية.

لكن تركيا لم تستفد بالضرورة من انخفاض تكاليف الإقراض. فمع تزايد مخاطر الدولة وتدهور ميزانيات البنوك العمومية، أصبح الاقتراض بالعملات الأجنبية في الخارج أصعب. فمع بيع الاحتياطيات من النقد الأجنبي من خلال البنوك لترويض انخفاض القيمة، وزيادة الأسر لودائعها بالعملات الأجنبية في الاستجابة لارتفاع التضخم، سرعان ما تنامى عدم تطابق العملات الأجنبية على ميزانيات البنوك العمومية. واكتسب التحوُّل إلى الدولار المزيد من الثِّـقَـل مع استمرار الجائحة، مع تسارع ودائع السكان المحليين بالعملات الأجنبية بشكل خاص في أوائل أغسطس/آب ــ مما أدى بالتالي إلى زيادة التزامات البنوك بالعملات الأجنبية تجاه الأسر المحلية.

(الرسم البياني رقم 3)

للحد من عدم تطابق العملات الأجنبية، يتعيَّن على بنوك الدولة إما أن تزيد من قروضها بالعملات الأجنبية للشركات (وبالتالي تثبيت استقرار جانب الأصول) أو تعمل على تقليص اقتراضها بالعملات الأجنبية من كل من الأسر المحلية والدائنين في الخارج (تثبيت استقرار جانب الالتزامات). لا تستطيع البنوك خفض ديونها الخارجية بالعملات الأجنبية على الفور، لأنها تحتاج إلى سداد أو ترحيل الالتزامات الضخمة القائمة. ورغم أنَّ القروض بالعملات الأجنبية أرخص، فإنَّ الشركات التركية تخشى أن تضطرَّ إلى النضال من أجل توليد القدر الكافي من العائدات بالعملة الأجنبية لسدادها. وبالتالي، سيكون من الصعب على البنوك أن تعمل على تحسين مركزها فيما يتعلق بالعملات الأجنبية مع الاستمرار في بيع الاحتياطيات لدعم الليرة.

كان هذا الخليط من السياسات غير المستدامة سبباً في زيادة مخاطر الدولة التركية، كما يتضح من ارتفاع فوارق أسعار مقايضة التخلف عن سداد الائتمان. لا تستطيع البنوك إيجاد التوازن بين أسعار الصرف وأسعار الفائدة في دولة حيث لا تخضع تدفقات رأس المال لأي ضوابط، حيث تتأثر شروط تمويل البنوك ليس فقط بالبيئة المالية العالمية بل وأيضاً بمخاطر الدولة. واستخدام البنوك لتحقيق هذا الغرض، بدلاً من تنفيذ سياسات مالية ونقدية جديرة بالثقة، يدمر التوازنات الاقتصادية على المستويين الداخلي والخارجي.

الآن، تمرُّ الأزمة التركية بمرحلة ثالثة، حيث بدأ صُنّاع السياسيات في تطبيع السياسة النقدية من خلال زيادة أسعار الفائدة. رفع البنك المركزي في جمهورية تركيا سعر الفائدة القياسي بمقدار نقطتين مئويتين في شهر سبتمبر/أيلول. لكن البنك لم يكمل دورة تشديد السياسة بزيادة أخرى لسعر الفائدة في أكتوبر/تشرين الأول، بل قام بدلاً من ذلك برفع أسعار الفائدة ضمنياً من خلال عمليات السيولة. وأدى هذا إلى تعزيز الرأي القائل بأن صانعي السياسيات غير راغبين في، أو غير قادرين على، معالجة التحديات الأكثر إلحاحاً التي تواجههم. وأفضت استجابة السوق المناوئة، مقترنة بعدم كفاية احتياطيات البنك المركزي لمعادلة الضغط، إلى إشعال شرارة الأحداث التي أدت إلى استبدال الفريق الاقتصادي.

أصر محافظ البنك المركزي التركي الجديد ووزير المالية على أنَّ استهداف التضخُّم سيكون له الأولوية في تركيا. ومع ذلك، ستتأثر السياسة النقدية في البلاد في نهاية المطاف بأردوغان، الذي أعرب مراراً وتكراراً عن اعتقاده بأنَّ أسعار الفائدة المرتفعة تسبِّب التضخُّم. تُـرى ماذا سيحدث بمجرد استقرار الأسواق المالية؟ هل يُـبقي البنك المركزي التركي على موقفه الأكثر تشدداً، بما يتوافق مع استهداف التضخم التقليدي، أو أنه سينظر في خفض أسعار الفائدة في محاولة "لخفض" التضخُّم، بما يتفق مع اقتراحات أردوغان؟

الواقع أنَّ المستثمرون يراقبون. إذا أثبت موقف تركيا السياسي الأكثر تشدداً كونه محاولة لمرة واحدة لتثبيت استقرار سعر الصرف، وخفضت الدولة أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة في محاولة لخفض معدل التضخم، فسوف تستمرُّ أزمتها التي تتفاقم ببطء بلا أدنى شك.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

سيلفا ديميرالب أستاذ الاقتصاد ورئيس البحوث الاقتصادية في جامعة كوتش، وتشغل منصب مدير منتدى الأبحاث الاقتصادية التابع لجامعة كوتش والرابطة التركية للصناعيين ورجال الأعمال. شبنم كاليمالي أوزكان كبير مستشاري السياسيات في صندوق النقد الدولي سابقا، وأستاذ الاقتصاد في جامعة ماريلاند في كوليدج بارك.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org

مرفق بهذا التعليق رسوم بيانية يمكنكم تنزيلها هنا.