الانتقال العادل يحتاج إلى ضمان الوظيفة
بافلينا ر. تشيرنيفا
نيويورك- ستقضي أزمة المناخ على ملايين الوظائف قبل وقت طويل من قيام الروبوتات المثيرة للخوف بذلك. إذ تشير التقديرات إلى أنَّ الإجهاد الحراري وحده سيقضي على ما يعادل80 مليون وظيفة بدوام كامل بحلول عام 2030، دون احتساب تلك التي ستختفي نتيجة حرائق الغابات، والفيضانات، والعواصف، وغيرها من الظواهر الجوية المتطرفة. وسيحدث هذا في أعقاب اختفاء255 مليون وظيفة على مستوى العالم في عام 2020، وهي ظاهرة لم يشهد التاريخ مثيلًا لها. ونظرًا لعدم تطابق نطاق التطورات الأخيرة مع النماذج المناخية التنبئية، فإنه من المحتمل أن تكون خسائر العمالة المتوقعة المرتبطة بالمناخ قد قُدرت تقديرًا ناقصًا أيضًا.
لقد كان من المفروض أن يتضح من خلال الصيف القاسي لهذا العام أنه لا وجود لمكان، أو شخص، أو وظيفة في مأمن من ويلات تغير المناخ. ومع ذلك، فالاقتصاديون في الولايات المتحدة قلقون بشأن الاقتصاد "المحموم"، ويتداولون ما إذا كان يتعيَّن على صانعي السياسة تشديد شروط الائتمان، وتقليص وتيرة نمو العمالة والدخل من أجل مكافحة ارتفاع الأسعار الناجم عن اختناقات سلسلة التوريد، والاضطرابات القطاعية. لذا، فالأسر العاملة لا تواجه خطر حدوث موجة حرارية واحدة بل موجتين وهما: النظرة التقليدية المفلسة القائلة بأن التضخم يجب محاربته بالبطالة، وموجة فقدان الوظائف التي تلوح في الأفق بسبب الاحتباس الحراري.
إنَّ ضمان العمل هو دواء شافي لكلا الموجتين. فهي سياسة توظيف عامة تضمن وظيفة لائقة بأجر يدعم الأسرة وبفوائد لأي شخص في حاجة إليها، وهي تؤدي هذه الوظيفة بطريقة تخفف من الضغوط التضخمية. وهي أيضًا أوضح إجابة للإجماع الدولي، المنصوص عليه في اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015، على أنَّ أي عمل مناخي يجب أن يدعم الالتزام "بضرورات الانتقال العادل للقوى العاملة، وخلق العمل اللائق والوظائف الجيدة بموجب أولويات التنمية المحددة وطنيًّا."
لذلك، عندما صاغ الكونغرس الأمريكي قرار الصفقة الخضراء الجديدة، وصف المراقبون المطلعون اقتراحه الخاص بضمان الوظائف الفيدرالية على أنه عنصر حاسم. كذلك، حدد بيان "العمل الديمقراطي" لعام 2020، الذي ظهر في43 صحيفة بـ27 لغة حول العالم، الحق في العمل باعتباره مطلبًا أساسيًّا ومكونًا حاسمًا في إزالة الكربون عن الاقتصاد. كما اعترفت منظمة العمل الدولية رسميًّا بالفكرة باعتبارها أفضل وسيلة لتشكيل "مستقبل عادل، وشامل، وآمن للعمل مع توفير العمالة الكاملة، والمنتجة، والمختارة بحرية، والعمل اللائق للجميع".
وإذا أردنا أن يصبح "العمل اللائق للجميع" معيارًا مرجعيًّا للسياسة العملية، فيجب ضمان أن يصل الجميع إلى وظيفة تدفع أجرا يكفي للمعيشة- وليس مجرد تضمينه في نص حُزم التحفيز والسياسات الأخرى. وسيوفر ضمان الصفقة الخضراء الجديدة للوظائف الفيدرالية الوظائف المفقودة التي أخفقت آليات السوق التقليدية في توفيرها، وسيكون هذا في طليعة المشاريع التي تخدم غرضًا عامًا، بما في ذلك معالجة أكثر التحديات المتعلقة بالمناخ إلحاحًا.
وكما أوضحتُ في كتابي، The Case for a Job Guarantee، يتميز هذا البرنامج بفوائد متعددة؛ فمنذ عهد فرانكلين دي روزفلت إلى قرار الصفقة الجديدة الخضراء، دائمًا ما كانت سياسة ضمان الوظيفة فكرة "خضراء" تهدف إلى الحفاظ على كل من الناس والكوكب. فهي تضمن عرض عمل انتقالي لجميع الأسر العاملة، بما في ذلك أولئك الذين جرفت الفيضانات والتهمت الحرائق منازلهم وتجارتهم وسبل عيشهم. وهي الجسر الذي يعبره عمال الوقود الأحفوري للانتقال إلى وظائف لائقة بمجرد أن يؤدي التحول الأخضر إلى إنهاء الصناعات الاستخراجية. وتوفر سياسة ضمان الوظيفة ما يلزم من فرص عمل لإعادة بناء المجتمعات وإصلاح الكوكب، وتوفِّر أقصر طريق للتعافي بعد الجائحة.
وإضافة إلى كون برنامج ضمان الوظيفة تؤدي وظيفة شبكة السلامة المهنية، فهو آلية حاسمة لتفادي عدم الاستقرار الاقتصادي، سواء كان نتيجة للتحولات الهيكلية في العولمة أو التغيير التكنولوجي، أو حالات الركود المتنوعة. وسوف يتضخَّم البرنامج في أوقات الحاجة الشديدة، عندما تتراجع الأسعار، والدخول، والعمالة الخاصة. ولكنه سيكون أيضًا مقيدًا ذاتيًّا، ويتقلص عندما توفر أجزاء أخرى من الاقتصاد نصيبها من الوظائف التي تدفع أجورًا جيدة.
ومن ثمَّ على غرار، الكثير من المثبتات التلقائية الأخرى التي لطالما كانت مفضلة على سياسات التحفيز المعممة، فإنَّ سياسة ضمان الوظيفة ستتقلب. والفرق هو أنه، على عكس عوامل الاستقرار الأخرى، لديها القدرة على المساعدة على إعادة تشكيل الاقتصاد.
ومع وجود برنامج ضمان الوظائف، لم يعد بإمكان الاقتصاديين تبرير البطالة على أنها "ضريبة طبيعية" لمكافحة التضخم. ولكن بدونه، سيبقى "العمل اللائق للجميع" شعارًا فارغًا، وستظل البطالة تهديدًا دائمًا. ولا يمكننا التحدث بجدية عن الدمج إذا استُبعد الأشخاص ذوي البشرة الملونة، ومقدمي الرعاية، وذوي الإعاقة، والشباب من الوظائف الجيدة. بصورة منهجية
وتحظى مقترحات برنامج ضمان العمل بشعبية كبيرة، ليس فقط لدى المنظمات المناخية الرائدة مثل حركة Sunrise (سانرايز) التي تلتف حوله. فقد بدأت مجتمعات تعدين الفحم في ولايتي "ويست فرجينيا" و"كنتاكي" ترى إمكاناتها التحويلية. ويقوم تحالف متنامٍ من الأفراد والمنظمات وقادة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، في ولايات نيو إنغلاند، وأبالاتشيا، وكاليفورنيا، بجعل هذه السياسة مطلبًا مركزيًّا.
ويتمتّع برنامج ضمان الوظيفة بنوع من الدعم من الحزبين بالكاد هناك برامج أخرى يمكن أن تطالب به. وفي استطلاع أجري عام2020 في الولايات المتحدة، أيَّد 79٪ من المستجوَبين من مختلف الفئات" الديموغرافية والحزبية والجنسانية" الفكرة، كما فعل 72٪ من المشاركين في استطلاع للرأي في المملكة المتحدة أجري في نفس الوقت تقريبًا. وفي فرنسا، يؤيد 79٪ من الناخبين ضمان الوظائف الفيدرالية، وقد تمت المصادقة على السياسة من قبل رؤساء بلديات باريس وليل. وفي الآونة الأخيرة، أيَّد 93٪ من المشاركين في الولايات المتحدة مبادرة وطنية للتوظيف والتدريب تخلق عملًا مدفوع الأجر للعاطلين عن العمل، باعتبارها عنصرًا من جهود التعافي من فيروس كورونا.
وفضلًا عن ذلك، أظهرت أزمة كوفيد-19 أنَّ التمويل ليس نادرًا. إذ أقرت دولة تلو الأخرى ميزانيات كبيرة لمكافحة الوباء. وليس من قبيل المصادفة أنَّ أكبر الزيادات في الإنفاق كانت في البلدان ذات السيادة المالية التي تصدر عملاتها وتتحكَّم فيها، وحيث يتم توفير التمويل الحكومي من قِبَل البنوك المركزية ووزارات المالية. وتراوح حجم جهود التحفيز في عام2020 من 18.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي في كندا إلى 21.8٪ في اليابان، و26.9٪ في الولايات المتحدة. والبلدان التي تفتقر إلى السيادة النقدية لديها حيِّز مالي أقل بكثير للاستجابة للوباء- وهو تحدٍّ سيعيق بالتأكيد استجاباتها المناخية أيضًا.
ولكن سواء أدركت الحكومات ذلك أم لا، فإنَّ تكلفة التقاعس عن العمل أو التأخر عن اتخاذ الإجراءات في معالجة أزمة المناخ قد دخلت بالفعل في ميزانية كل بلد. ولا يمكن السماح للاستقامة المالية التي وُضِعَت في غير محلها أن تشل أجندة سياسية جريئة. وكما أشار رئيس لجنة الميزانية بمجلس النواب الأمريكي جون يارموث أخيرًا، قد تواجه الدول ذات السيادة المالية قيودًا على الموارد والتضخم، لكن لا يمكن أن ينْفُد التمويل. وباعتبارها أكبر الدول الملوثة، فهي ملزمة أخلاقيًّا بإطلاق خطة مارشال الخضراء العالمية.
إنَّ الكوكب ليس زبونًا يدفع. وليس لدينا متسع من الوقت لتنظيم العائد التجاري "الصحيح" على الاستثمارات المتعلقة بالمناخ، أو حث الجهات الفاعلة الخاصة المناسبة، أو تحفيز الأسواق لمعالجة المشكلة. وبالنسبة لتحدي النسب الكوكبية الذي لا يقدم عائدًا ماليًّا واضحًا، يجب على الحكومات أن تتصرف بجرأة ومباشرة، وبالتضافر لصياغة انتقال عادل للجميع.
وكما حذر علماء المناخ منذ فترة طويلة، حتى النماذج الأكثر تعقيدًا لا تأخذ في الحسبان بصورة كاملة نقاط التحول المحتملة، وحلقات التغذية المرتدة، ومصادر الاحترار المخفية. وينطبق الشيء نفسه على النماذج الاقتصادية. وتخلق مشكلات مثل البطالة الجماعية، وعدم المساواة الشديدة، وغياب الوظائف الجيدة والمستقرة ديناميكيات ردود فعل ونقاط تحوُّل خاصة بها. وفي الماضي، تضمَّنت هذه العوامل صعود الاستبداد، والشوفينية، وكراهية الأجانب، والتحيُّز، والتوتر العرقي والإثني، والانهيار الديمقراطي، وعدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
وسيظل المحتوى الدقيق للعدالة المناخية مجالًا متنازعًا عليه، حيث تتراوح المطالبات بين المطالب الأكثر تواضعًا لوظائف جيدة إلى رؤى أكثر راديكالية لإنهاء الرأسمالية الاستخراجية والإمبريالية الاقتصادية. وهناك طرق لا تعدُّ ولا تحصى لترتيب الشؤون الاقتصادية البشرية. وسياسة ضمان العمل هي الركيزة الأساسية التي يمكن من خلالها بناء حلول للتحديات الاقتصادية التي تواجهنا.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
بافلينا آر. تشيرنيفا، أستاذة مشاركة بكلية بارد، شعبة اقتصاد، وباحثة في معهد ليفي للاقتصاد، ومؤلفة كتاب «The Case for a Job Guarantee»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org