استقرار اليورو يتطلَّب سياسة صناعية طموحة
خافيير فايفز
برشلونة ــ عادت فكرة السياسة الصناعية الأوروبية إلى الأجندة منذ إصدار البيان الفرنسي الألماني حول هذه القضية في أوائل عام 2019 على الأقل. ولكن في حين ركَّزت هذه الوثيقة في المقام الأول على القدرة التنافسية العالمية، فإنَّ حجة أخرى قوية بذات القدر لصالح إحياء السياسة الصناعية تتمثَّل في كونها ضرورية لبقاء اليورو.
منذ تقديم العملة الموحدة، ظلَّت الحصة الصناعية في الاقتصاد من حيث القيمة المضافة مستقرة في ألمانيا في حين انحدرت بشكل ملحوظ في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا. ومن المحتم أن تتسبب استجابة السياسة الاقتصادية الضخمة لصدمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) من جانب ألمانيا في تعزيز هذا الاتجاه.
الواقع أنَّ الصناعة، التي تترجم بصورة عامة على أنها تشمل الخدمات الرقيمة، تُـعَدُّ المفتاح إلى زيادة الإنتاجية، مما يعني ضمناً أن بلدان الاتحاد الأوروبي في الجنوب ستحتاج إلى إطلاق عملية لإعادة تنشيط الصناعة. وإلا فإنَّ افتقارها النسبي إلى القدرة التنافسية من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم وتعميق اختلالات التوازن داخل منطقة اليورو، وزيادة احتمالية التحويلات الدائمة من الشمال إلى الجنوب، مما يهدد الاستدامة السياسية في الكتلة.
النبأ السيئ هنا هو أنه ربما تستطيع فرنسا تحمل إنفاق مليارات اليورو لدعم صناعة السيارات، فإن إيطاليا وإسبانيا لا تستطيعان ذلك. أما النبأ السار فهو أنَّ حزمة التعافي المسماة جيل الاتحاد الأوروبي التالي تقدم الفرصة لإحياء الصناعة في جنوب أوروبا وتهيئة بلدانه لمستقبل رقمي مستدام.
وفقاً للاتفاق الذي توصل إليه مجلس الاتحاد الأوروبي في يوليو/تموز الماضي، "يتعين على الدول الأعضاء أن تعمل على إعداد خطط وطنية للتعافي وتعزيز القدرة على الصمود، على أن تحدد هذه الخطط أجندة الإصلاح والاستثمار للدول الأعضاء المعنية للأعوام من 2021 إلى 2023". ولكن ينبغي لقادة الاتحاد الأوروبي الآن أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، من خلال وضع أهداف واضحة لجعل الصناعة الأوروبية قادرة على المنافسة عالميا وأكثر توازناً جغرافياً. ويجب أن يكون التركيز منصباً على ذات القطاعات الرئيسة المحددة في البيان الفرنسي الألماني: الصحة، والطاقة، والمناخ، والأمن، والتكنولوجيا الرقمية، مع مبادرات محددة في مجالات مثل الإلكترونيات الدقيقة، والبطاريات، والذكاء الاصطناعي.
بينما تندفع كل من الولايات المتحدة والصين في السعي وراء فرض الهيمنة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي وغير ذلك من التقنيات المتطورة، تتخلف أوروبا على نحو متزايد في الاقتصاد الرقمي. وحتى في ألمانيا الناجحة، نجد أن إجمالي رسملة سوق الأوراق المالية أقل من رسملة بعض شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة مثل أمازون، أو آبل، أو ميكروسوفت.
على عكس ما زعـم بعض المراقبين، لم يكن افتقار أوروبا إلى القدرة التنافسية التكنولوجية راجعاً إلى سياسة المنافسة في الاتحاد الأوروبي، التي منعت عمليات الاندماج كتلك بين شركة ألستوم وشركة سيمنز. بل تكمن مشكلة أوروبا في التفتُّت العميق الذي تتسم به سوقها الرقمية، والذي يجعل من المستحيل أن تتمكَّن الشركات من الاستفادة من اقتصادات الحجم الكبير الديناميكية التي كانت لتوفرها المنصات الرقمية والبيانات الضخمة. وهذه العقبة تترك القليل من الحوافز للاستثمار في مشاريع البحث والتطوير التي تدفع عجلة الإبداع والابتكار.
ما يزيد الأمور سوءاً على سوء أنَّ سياسات تدبير اللوازم العامة أيضاً شديدة التفتت في أوروبا، وهو ما يرجع في الأغلب الأعم إلى افتقارها إلى سياسة دفاعية مشتركة. وهذا التشرذُم، وليس المنافسة داخل السوق الموحدة، هو ما يفسر غياب الشركات "الرائدة" الأوروبية.
في الماضي، تدهورت السياسة الصناعية الأوروبية بعد فشل استراتيجية انتقاء الفائزين في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. وقد حَـوَّل صُنّاع السياسات تركيزهم إلى تعزيز الإبداع، وتدريب قوة العمل، وتوفير بيئة عمل جذابة. ثمَّ عملت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 على تجديد الاهتمام بالسياسة الصناعية، والآن تؤكد جائحة كوفيد-19 على مزاياها المحتملة كوسيلة لدفع المنافسة، وتعزيز أهداف الاستدامة، وتأمين سلاسل التوريد، وزيادة المرونة الاقتصادية.
لقد تسببت الجائحة في جعل السيادة التكنولوجية واستقرار سلاسل القيمة من الأولويات الأساسية، ليس في أوروبا وحسب بل في كل مكان. وتظهر كل من الضرورتين بشكل بارز في برنامج السياسة الاقتصادية الذي يقدمه المرشح الديمقراطي للرئاسة في الولايات المتحدة جو بايدن، وتدفعنا كل الأسباب إلى الاعتقاد بأن عمليات الشركات الأجنبية التي تسيطر عليها الدولة ــ وخاصة الشركات الصينية ــ ستخضع لمراقبة لصيقة في كل من الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات المقبلة.
علاوة على ذلك، تلعب السياسة الصناعية دوراً حاسماً في نقل الموارد من القطاعات المتدهورة والتي عفى عليها الزمن إلى قطاعات ناشئة قابلة للبقاء والنمو. وبدون نهج استراتيجي، لن تؤدي مساعدة الدولة للقطاع الخاص إلا إلى خلق المزيد من الشركات الميتة الحية التي كان ينبغي لها أن تفشل. ويصبح هذا الخطر جسيماً بشكل خاص في ظل الظروف الحالية، نظراً لحجم الإنفاق الطارئ من قِـبَـل الحكومات. وفي السعي إلى ملاحقة هدف التعافي بعد الجائحة، لا يجب أن يكون هدف برنامج جيل الاتحاد الأوروبي التالي وغيره من البرامج استعادة النمو وحسب بل وأيضا تحويل الاقتصاد.
لتحقيق هذه الغاية، يجب استخدام السياسة الصناعية للمساعدة على تنسيق الاستثمارات. لا تعتمد صناعات رئيسة مثل المركبات الكهربائية على قطاع صناعة السيارات وحسب بل وأيضاً على مجالات تتراوح من الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس من الاتصالات إلى تصنيع البطاريات والبنية الأساسية (محطات الشحن). وعلى هذا فإنَّ تحقيق هدف القدرة التنافسية العالمية في هذه الصناعة يتطلَّب استثمارات تكميلية واسعة النطاق، ناهيك عن قوة عمل جيدة التدريب والتعليم. في حالة أوروبا، لا يتمتَّع نهج عدم التدخل التقليدي بالمزايا التي قد تجعلنا نوصي به. وسوف يكون التعاون بين القطاعين العام والخاص ضرورياً.
يعتمد نجاح صندوق التعافي في الاتحاد الأوروبي على التنسيق على المستوى الأوروبي، بعد عملية اختيار ومراقبة دقيقة للإنفاق العام. لمنع سياسات إنفاق المحسوبية والاسترضاء من الحد من الإمكانات التحويلية للتعافي، يجب تقييم وصياغة المشروعات المرشحة بواسطة هيئات وطنية مستقلة يعمل بها متخصصون معترف بهم.
الواقع أنَّ منطقة اليورو تحتاج إلى سياسة صناعية تحافظ على المنافسة الداخلية بينما تدعم أيضاً الصناعة في جنوب أوروبا وتحافظ على التزام الاتحاد الأوروبي بفتح الأسواق دولياً. وإلا فإنَّ اليورو ذاته سيظل عُرضة للخطر.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
خافيير فايفز أستاذ علوم الاقتصاد والتمويل في كلية IESE لإدارة الأعمال.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org