لا ينبغي للبلدان الإفريقية أن تخشى التخلُّف عن السداد

موريتز كريمر

فرانكفورت ــ منذ اندلعت أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، يلوح شبح التخلُّف عن سداد الديون السيادية في أفق الاقتصادات النامية. وتخشى حكومات عديدة خسارة القدرة على الوصول إلى الأسواق حتى إنها لم تعد راغبة في معالجة مشكلة القدرة على تحمُّل الديون. مع ذلك، من خلال نظرة فاحصة على التأثير الذي خلفته أزمة كوفيد-19، إلى جانب الحقائق المالية والتمويلية فيما يتصل بالبلدان المنخفضة الدخل، يتبيَّن لنا قدوم وضع "معتاد جديد"، حيث يصبح التخلُّف عن السداد في الوقت المناسب بعيداً كلَّ البعد عن كونه السيناريو الأسوأ.

تشير تقديرات البنك الدولي إلى أنَّ نصف أفقر بلدان العالم تشهد حالياً، أو معرضة لخطر، ضائقة ديون. في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، على سبيل المثال، تدهورت مقاييس القدرة على الوفاء بالديون بشكل كبير هذا العام، بعد ست سنوات من الضعف التدريجي المرتبط بانخفاض أسعار السلع الأساسية العالمية. تنفق أنجولا، وغانا، ونيجيريا ما يقرب من نصف عائداتها الحكومية على أقساط الفوائد. وتشير تقديرات وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيفات العالمية لديون الدول التسع عشرة ذات السيادة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا التي تقوم بتصنيفها إلى أنَّ ثلثي مجموع أقساط الفائدة التي تدفعها تذهب إلى دائنين من القطاع الخاص.

في الوقت ذاته، يتوقَّع صندوق النقد الدولي أن تمحوَ أزمة كوفيد-19 عقداً من الزمن من التقدم في الحد من الفقر، وما سيصاحب ذلك من تأثيرات دائمة من شأنها أن تعرقل بشكل كبير آفاق التنمية في البلدان المنخفضة الدخل. في ضوء الاعتبارات الإنسانية البحتة، لا ينبغي لهذا أن يكون مقبولاً، بل وحتى كذلك في ضوء أهداف الاستدامة والتنمية الأطول أمداً.

من المؤكد أنَّ الدائنين اتخذوا بعض الخطوات لتخفيف أعباء الديون المستحقة على البلدان النامية. فبموجب مبادرة تعليق خدمة الديون التي أطلقتها مجموعة العشرين، تستطيع أفقر بلدان العالم، وأغلبها في إفريقيا، أن تتقدَّم بطلبات لتأجيل أقساط خدمة الديون الثنائية. كما وافقت بلدان مجموعة العشرين على إطار عمل مشترك لإعادة هيكلة الديون الحكومية.

لكن الأمر لا يخلو من عوائق كبيرة تحول دون تحقيق أيِّ تقدُّم. بادئ ذي بدء، يساور العديد من البلدان النامية القلق من أن تعلن وكالات التصنيف عجزها عن السداد إذا أعادت هيكلة ديونها المستحقة، مما يتسبَّب في خسارتها القدرة على الوصول إلى الأسواق لفترة مطولة. ولكن في حين أنَّ وكالات التصنيف ستصنف إعادة الهيكلة على أنها تخلف عن السداد بالفعل، فإنَّ المخاوف بشأن خسارة القدرة على الوصول إلى الأسواق مبالغ فيها.

بادئ ذي بدء، خسرت أفقر البلدان بالفعل القدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال في مارس/آذار. ويجب عليها أن تركز الآن على استعادة القدرة على الوصول إلى الأسواق بطريقة مستدامة.

في الواقع، مع تعاظم سعي المستثمرين اليائس إلى تحصيل العوائد، اكتسبت هذه البلدان بعض النفوذ. خلال أزمة الديون في أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، كانت عائدات سندات الخزانة الأميركية لعشر سنوات أعلى من 10%. وحتى في أوج الأزمة المالية العالمية في الفترة 2007-2009، كان العائد على سندات الخزانة لعشر سنوات قريباً من 4%. واليوم انخفضت العوائد إلى أقل من 1%. وعلى المستوى العالمي، يتجاوز حجم السندات ذات العائد السالب 18 تريليون دولار أميركي.

في هذا السياق، لا يستطيع المستثمرون أن يرفضوا ببساطة الجهات السيادية المتخلفة عن السداد لفترة طويلة إذا كان ذلك يعني التخلي عن عائدات جذّابة. والواقع أنَّ انخفاض أسعار الفائدة العالمية كان مصحوباً بالفعل بانخفاض ملحوظ في الوقت الذي قد تستغرقه أيُّ دولة ذات سيادة لاستعادة قدرتها على الوصول إلى الأسواق بعد التخلُّف عن السداد. فقد أصدرت الأرجنتين سندات مدتها 100 عام في عام 2017 ــ بعد عام واحد من خروجها من أزمة التخلف عن سداد ديونها. وتقدم سندات اليونان لمدة عشر سنوات عائداً أقل من 0.7%. وهذه ليست مصادفة.

علاوة على ذلك، من منظور مقترض على وشك الإفلاس، تعزز إعادة هيكلة الديون من جدارته الائتمانية. ومع إزالة الروافع المالية الزائدة، تتحسَّن إمكانات النمو والتنمية. وهذا من شأنه أن يجعل الدول ذات السيادة المؤهلة لمبادرة تعليق خدمة الديون في إفريقيا وخارجها مقاصد جذّابة للاستثمار مرة أخرى.

في حين قد تكون إعادة هيكلة السندات الإفريقية نعمة للمدينين، فإنها لن تلحق ضرراً كبيراً بالدائنين، على عكس أزمات الديون في الثمانينيات على سبيل المثال. في ذلك الحين، كان التخلُّف عن السداد المبكر من جانب واحد من قِـبَـل الحكومات ذات السيادة في الأسواق الناشئة ليتسبَّب في إفلاس بعض أكبر البنوك الأميركية، مما كان يعني أنَّ الدائنين لديهم مصلحة قوية في اللعب بخشونة واكتساب الوقت.

لم تعد هذه هي الحال اليوم. إذ لا تمثّل الديون المستحقة على البلدان المؤهلة لمبادرة تعليق خدمة الديون سوى حصة ضئيلة من محافظ المستثمرين المؤسسيين. وفيما يتعلَّق بصناعة الاستثمار ككل، سيكون التأثير ضئيلاً للغاية. ونظراً لعدم وجود صدمة، فسوف يكون المستثمرون أقل عزوفاً عن العودة إلى السوق عندما يكون السعر مناسباً.

أخيراً، في استعارة لكلمات كينيث روجوف وكارمن راينهارت الشهيرة، نستطيع أن نقول إنَّ هذه المرة مختلفة حقاً. الواقع أنَّ المأزق المالي الذي يحيط بالعديد من البلدان الفقيرة اليوم لم يكن نتيجة لسياسات متهورة أو إفراط في الاقتراض، بل كان راجعاً إلى صدمة كبرى مفاجئة. ويدرك المستثمرون تمام الإدراك أنَّ التخلُّف عن السداد في ظل الظروف الحالية لا يشير بأي حال من الأحوال إلى احتمال حدوث تخلف آخر عن السداد. أي إنَّ وصمة التخلف عن السداد لن تستمر ببساطة.

تتمثل عقبة أخرى محتملة قد تحول دون تحقيق التقدم في إحجام الدائنين من القطاع الخاص. الواقع أنَّ بعض الدائنين من القطاع الخاص يبذلون قصارى جهدهم لإذكاء مخاوف التخلف عن السداد بين المدينين السياديين. لكن الحقيقة هي أنَّ محادثات إعادة الهيكلة اختيار لا مفرَّ منه، ويتعيَّن على الدائنين من القطاع الخاص والدائنين الرسميين أن يشاركوا. (على النقيض من أزمات الديون السابقة في إفريقيا، يشكِّل حاملو السندات الآن جزءاً مهماً من معادلة الديون في العديد من البلدان).

ينبغي لهذه المحادثات أن تبدأ في أقرب وقت ممكن. أظهرت تجارب الماضي مع إعادة هيكلة الديون السيادية أنَّ التأخير يقود إلى أزمات أشد عمقاً في البلدان النامية، وتقليمات أكبر للمبالغ المستحقة للدائنين، واستبعاد أطول أمداً من أسواق رأس المال.

لحسن الحظ، ستكون آجال استحقاق السندات الإفريقية منخفضة بشكل استثنائي في عام 2021. وهذا يوفِّر خلفية مثالية لمفاوضات تخفيف الديون المتعددة الدائنين الضرورية والمعقدة. ونيابة عن مجتمعاتهم المتألمة، يتعيَّن على القادة الأفارقة أن يغتنموا هذه الفرصة، حيث يحملون الآن كلَّ الأوراق.

ولكن لجعل هذه الممارسة جديرة بالعناء، يتعيَّن على الحكومات المدينة أن تلتزم بشكل جدير بالثقة بتوجيه التدفقات الخاصة في المستقبل بطرق تُـفضي إلى تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي تحصين نفسها ضدَّ صدمات المستقبل وانتكاساته. ويجب أن يكون تخفيف الديون والتعافي المستدام وجهين لعملة واحدة. ومن منظور إفريقيا، تشتري هذه العملة المكافأة الكبرى، التي تتمثل في مستقبل أكثر ازدهاراً وقدرة على الصمود.

ترجمة: مايسة كامل            Translated by: Maysa Kamel

موريتز كريمر كبير المستشارين الاقتصاديين لدى شركة استشارات المخاطر أكريديتوس، وشغل منصب كبير مسؤولي التصنيفات السيادية في ستاندرد آند بورز خلال الفترة من 2013 إلى 2018.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org