العولمة.. مآلاتها والجدل حول تفككها
أندريس فيلاسكو
ادّعى الشاعر التشيلي، نيكانور بارا، أن «اليسار واليمين لن يُهزما أبدًا إن كانا متحدين». وتتجلى هذه النقطة في الجدل الحالي بشأن تفكك العولمة. إذ لم يرحب التقدميون أبداً بالنمو السريع للتجارة العالمية.
والآن، بمجرد حدوث انعكاس معين، تكون ردة فعلهم الصراخ بهذه العبارة: «لقد أخبرتك بذلك!» بينما، يصرخ المحافظون الداعمون للعولمة مع أقل الانتكاسات حدة بعبارة «السماء ستسقط!»، شأنهم في ذلك شأن الأشخاص الذين يتنبؤون بكارثة دون تقديم مبررات.
إن كلا المعسكرين لهما مصلحة في المبالغة في مدى تفكك العولمة، لذا سيحظى حديثهما بشأن تراجعها بقبول واسع النطاق. فبعد الأزمات المالية المتكررة، وردود الفعل الوطنية، وجائحة كوفيد 19، والآن الحرب الروسية على أوكرانيا، أصبحت أيام العولمة معدودة.
وفقًا للبنك الدولي، انخفضت حصة التجارة في السلع والخدمات من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من ذروة بلغت %61 في عام 2008، قبل الأزمة المالية العالمية مباشرةً، إلى %52 في عام 2020. ولكن هذا الرقم لا يزال مرتفعًا جدًا استناداً إلى المعايير التاريخية. إذ لم يتجاوز متوسط نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي %42 في تسعينيات القرن العشرين، عندما كان النقاد يشكون بالفعل من العولمة المفرطة.
وما يثير أكبر قدر من الاهتمام هو أن الحرب الجمركية الشاملة التي تنبأ بها المتشككون في التجارة لم تندلع أبدًا. إذ في عام 2018، بدأ الرئيس الأمريكي آنذاك، دونالد ترامب، في زيادة الرسوم الجمركية على بعض السلع الصينية؛ وانتقمت الصين، ثم امتد النزاع إلى عدد قليل من الأسواق الأخرى. وخلُص الرئيس، جو بايدن، في البداية إلى أنه من المناسب الاحتفاظ ببعض تعريفات ترامب، لكنه يخطط الآن لرفعها في محاولة لخفض التضخم في الولايات المتحدة.
ولن يحدث تصعيد عالمي في التعريفات والحصص لسبب بسيط، وهو أن الناخبين لا يريدون حدوث ذلك. ففي البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء، يمكن لأحد الوالدين شراء زوج من أحذية الأطفال المصنوعة في الصين مقابل 10 دولارات أو أقل. ومنذ جيل مضى، كان الخيار الوحيد في معظم الأماكن هو زوج محلي الصنع يكلف عدة أضعاف ذلك.
ومن المفترض أن تحظى الحمائية بشعبية بين الناخبين، لكن الواقع يبدو أكثر غموضاً. وسيخبرك أي مستطلع للرأي، أن عبارة «على الحكومة أن تفعل ما في وسعها لحماية الأعمال التجارية المحلية والوظائف المحلية» عادة ما تحشد دعماً ساحقاً. إن عبارة «يجب أن تحمي الحكومة الصناعة المحلية حتى لو تطلب ذلك رفع الأسعار أمام المستهلكين» يقابَل بسخرية واسعة النطاق.
وهناك تغييرات جارية على قدم وساق في التجارة العالمية، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة تفكك العولمة على نطاق واسع.
ويتمثل التغيير الأول في إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية. إذ ذكرت وسائل الإعلام بتفاصيل غير مفرحة أن العديد من الشركات العالمية بما في ذلك شركات صناعة السيارات وحليب الأطفال تعرضت في بادئ الأمر لاضطرابات بسبب التوترات بين الولايات المتحدة والصين؛ وبعد ذلك تضررت بسبب الوباء، وها هي الآن محاصرة بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ وليست هناك خطة بديلة للوصول إلى المدخلات اللازمة.
لذا، فهي تتحول الآن من توفير الإمدادات «في الوقت المناسب تماماً» إلى توفير الإمدادات «الاحتياطية». إن «المرونة»، و«الاستعانة بمصادر خارجية قريبة جغرافياً»، و«المعاملات التجارية مع الأصدقاء»، هي العبارات الطنانة اليوم.
لقد كان التوسع الذي شهدته التجارة العالمية خلال العقدين الماضيين يشبه حمى الذهب أو فقاعة الانترنت في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ويمكن للشركات التي وجدت المورد الأقل تكلفة على المستوى الدولي، دون الاهتمام بالمخاطر التي ينطوي عليها ذلك، أن تحقق أرباحًا كبيرة. وحذت شركات أخرى حذوها لأن منافسيها كانوا يفعلون ذلك. وفي النهاية، شيء ما كان يجب أن ينهار
ورغم أن انهيار الانترنت أدى إلى القضاء على موقع Pets.com، إلا أنه أعطانا Facebook (فيسبوك)، وAmazon (أمازون)، وNetflix (نيتفليكس). وهذه المرة، تتسبب الأزمات في قيام الشركات بتنويع الموردين ووضع الخطط «ب» و«ج» و«د».
وستزداد التكاليف، وكذلك السلامة والموثوقية. والأمر الحاسم الذي سيظل قائماً هو أن معظم الإمدادات ستأتي من الخارج.
بينما يتمثل التغيير الكبير الثاني في التحول التدريجي من تجارة السلع إلى تجارة الخدمات، وهو تحول لا لبس فيه. إذ تتراجع حصة التصنيع من إجمالي الإنتاج في كل مكان تقريبًا، وكان الانخفاض حادًا بصورة خاصة في الصين.
وليس من المستغرب أن حصة التجارة في المصنوعات من الناتج المحلي الإجمالي العالمي آخذة في الانخفاض. ومن المرجح أن تشكل الخدمات هذا الركود، لكن التجارة في الخدمات تعوقها جميع أنواع الحواجز السياسية والتنظيمية والثقافية. وليس ضرورياً أن يتحدث العملاء نفس لغة الأشخاص الذين يصنعون هواتفهم الذكية.