الاقتراض العام ومعدل نمو الاقتصاد
المصدر: باري آيكنغرين*
تسبب الاهتمام الدائر في الولايات المتحدة بسقف الدين الفيدرالي في إعادة توجيه الأنظار نحو الاقتراض العام المتصاعد.
ففي ظل خلفية من التشديد النقدي الذي ينتهجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي، يعزز تكديس المزيد من الديون المخاوف من نمو في التزامات الفائدة المستحقة على الحكومة.
يمثل هذا التصور رواية توحي أجواؤها بأمور مستقبلية، غير أن المشكلة الوحيدة تكمن في بطلان كل عنصر من عناصرها تقريباً.
أولاً، الدين الحكومي ليس في تصاعد كبير، إذ يتوقع مكتب الميزانية في الكونغرس ارتفاع الدين العام من أدنى من 100% بقليل من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 إلى أكثر قليلاً من 110% في عام 2033. ومع ما تستوجبه تلك الزيادة من المراقبة والاهتمام، فإنها لا تعد كارثية بأي حال من الأحوال.
ورغم ما يراه مكتب الميزانية بعد ذلك من تسارع وتيرة ارتفاع نسبة الدين، مدفوعاً بالصرف على برامج الاستحقاقات، هناك مشكلات أكثر إلحاحاً تستدعي الانتباه اليوم مقارنة بما سيحدث بعد عام 2023.
تشمل قائمة الاحتياجات الملحة تجديد البنية التحتية الأمريكية، وتفادي كارثة مناخية، وتوفير التعليم والتدريب للأجيال الناشئة. إن تقليص مخصصات البرامج العامة الأساسية الآن لمعالجة مشكلة دين لن تبدأ حتى في التشكل قبل عقد من الزمن يجعلنا نبدو كأننا نطلق النار على أقدامنا.
ثانياً، تكاليف الفائدة ليست في نمو متفجر كما يُتصور. لا أنكر أن مستوى التضخم لا يزال مرتفعاً، مما يدفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى الارتفاع، لكن بما أن الخزانة الأمريكية تُصدر سندات طويلة الأجل، فإن تكاليف خدمة الدين تعتمد بالتالي على أسعار الفائدة طويلة الأجل، التي ارتفعت بنسبة أقل، حيث يبلغ سعر الفائدة على سندات العشر سنوات الحكومية حالياً 3.6%.
بينما تقف توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس للتضخم في هذا الجانب عند 2.4%، وبالتالي يبقى مستوى سعر الفائدة الحقيقي (المعدل حسب التضخم) المناسب لحساب عبء الفائدة عند 1.2% فقط.
وكما يذكّرنا أوليفييه بلانشار، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقاً، في كتاب جديد قيم، فإن المهم هو الفرق بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل نمو الاقتصاد. فإذا كان سعر الفائدة الحقيقي أقل من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب التضخم، فمن الممكن أن تهبط نسبة الدين حتى عندما تسجل الحكومة عجزاً في الميزانية. وهنا نجد أن توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس للنمو خلال السنوات العشر المقبلة تبلغ 1.7%، أي أعلى من سعر الفائدة الحقيقي.
وهذا ليس ترخيصاً أو تبريراً للانغماس في إنفاق غير محدود، لكنه يعني أننا لو أخذنا في الاعتبار نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي البالغة 100%، فإن احتمالية تسجيل الحكومة الفيدرالية عجزاً مقداره 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي (وهو الفرق بين 1.7% و1.2%) فوق مدفوعاتها لسداد الفوائد لن تتسبب في رفع نسبة الدين.
أتصور أن مكتب الميزانية في الكونغرس يبالغ في تقديراته بشأن احتمالات نمو الاقتصاد الأمريكي، في ظل تواصل اتجاه نمو الإنتاجية نحو الانخفاض، مع إمكانية تمادي هذا الاتجاه الهابط.
لكن بالمثل ربما جاءت تقديرات المكتب للنمو المحتمل أقل من المفترض، إذا وضعنا في الاعتبار أن الشركات لا تزال في مرحلة الشروع في الاستفادة من التقنيات الجديدة الآخذة في الظهور في كل مكان حولنا. لذا أرى أن الطريقة المثلى للمضي قدماً تتلخص في تبني تقدير مكتب الموازنة في الكونغرس مع الإقرار بالشكوك الهائلة المحيطة به.
سيهبط مستوى التضخم في ظل التزام مجلس الاحتياطي الفدرالي بخفضه، وعليه، ستنخفض أيضاً أسعار الفائدة الاسمية نظراً لوعي المستثمرين بجدية التزام الاحتياطي الفيدرالي.
لكن تحديد أيهما سينخفض أسرع، بمعنى ما سيحدث لسعر الفائدة الحقيقي، يتوقف على التوازن بين الادخار والاستثمار. وهنا أقول انظر إلى الأمر بهذه الطريقة: كلما زادت المدخرات المتاحة لتمويل مشاريع استثمارية منتجة، انخفضت معدلات العائد الحقيقية.
على جانب المدخرات، نجد أن الماضي خير دليل إلى المستقبل، لأن تطور العوامل المحددة للمدخرات المتاحة للاقتصاد الأمريكي بطيء عبر الزمن.
ويأتي على رأس تلك العوامل: متوسط العمر المتوقع ومدى انتشار الأعمار الطويلة بين السكان. فكلما شاع طول العمر وزادت مدخرات الأشخاص الآملين في قضاء مزيد من السنوات في التقاعد، زادت احتمالية ارتفاع كل من المعروض من المدخرات والطلب على سندات الخزانة الأمريكية.
لكن من العوامل التي تدفع في الاتجاه الآخر المعروض من المدخرات من الصين والأسواق الناشئة الأخرى، وهو ما سمَّاه رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق بن برنانكي «تخمة المدخرات العالمية»، وفي ظل تباطؤ النمو في الصين، سيتراجع هذا المصدر للادخار.
كما أن رغبة الصين والأسواق الناشئة الأخرى في الاستثمار في سندات الخزانة الأمريكية على وجه الخصوص ستتقلص، نظراً لتنامي التوترات بين الولايات المتحدة والصين.
وأرجّح أن تفضي تلك التغيرات المختلفة على جانب المعروض من المدخرات، والتي تسير في اتجاهين معاكسين، إلى نوع من التوازن بصورة أو بأخرى.
إذاً، سيكون التحرك المهم مُنصبّاً على جانب الاستثمار، حيث سيكون هناك ضغط سياسي وحافز اقتصادي كبير لضخ استثمارات إضافية في مجالات البنية التحتية، وتخفيف حدة تغير المناخ، وتقديم الرعاية الصحية، والتقنيات الرقمية الجديدة.
وستفرض المنافسة من جانب متعهدي تلك الاستثمارات الإضافية على قدر محدود من المعروض من المدخرات ضغوطاً تدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع.
وهذا من شأنه أن يضعف القدرة على تحمل أعباء الديون. لكن تلك الاستثمارات ذاتها، إذا نفذت بذكاء، ستعزز النمو الاقتصادي، الأمر الذي سيسهل القدرة على تحمل أعباء الديون.
* أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومن أحدث مؤلفاته كتاب «في الدفاع عن الدين العام» (مطبعة جامعة أكسفورد، 2021).