الأرجنتين وأزماتها المالية المتجددة
أندريس فيلاسكو
كتب كارل ماركس أن كل «الحقائق التاريخية العالمية» الكبرى تحدث مرتين: «المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة». ولكن ماذا لو تكررت المرة تلو الأخرى، كل بضع سنوات، ومن عقد إلى آخر؟ هل يُـعَـد هذا مأساوياً أو هزلياً؟ ألم تعد مثل هذه الحقائق «تاريخية عالمية»؟ أو هل توقف العالم عن الاهتمام ببساطة؟
تتبادر إلى الذهن هذه الخواطر بينما تتوالى فصول أزمة مالية أرجنتينية أخرى. تنضح الأجواء بنفحة من المهزلة: حيث يتصادم الرئيس فرنانديز مع نائبة رئيس تُـدعى أيضاً فرنانديز (لا توجد علاقة قرابة بينهما)، مما يتسبب في دفع وزير الاقتصاد إلى الاستقالة.
ثم تُـعـلِـن الوزيرة الجديدة أنها تعتزم خفض العجز المالي، حتى برغم أن نائبة الرئيس كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، وهي التي تتخذ القرارات في حقيقة الأمر، أوضحت أنها تريد عجزاً أكبر. يتملك الجنون من الأسواق، وينهار البيزو، مما يُـسـفِـر عن فجوة بنسبة %150 بين سعر الصرف في السوق السوداء ــ المعروفة محلياً على سبيل التجميل بمسمى «السعر الأزرق» ــ والسعر الرسمي.
وصلت الأرجنتين إلى هذه النقطة بذات الطريقة التي قادتها إلى المشكلات الاقتصادية مرات عديدة في القرن الماضي. أولاً، يَـعِـد الساسة بزيادة الإنفاق لكنهم غير مستعدين لزيادة الضرائب لتغطية تكاليف هذه الزيادة.
ثم تقترض الحكومة إلى أن تكف الأسواق عن الإقراض. ثم يطبع البنك المركزي البيزو لتمويل العجز الأولي وأقساط خدمة الدين إلى أن يرفض المواطنون الاحتفاظ بالمبالغ الإضافية من البيزو. ويترتب على ذلك تهافت على التخلص من العملة.
لكن الأمر ينطوي الآن على تطورين جديدين. في السابق، كان هبوط أسعار المنتجات الزراعية (الأرجنتين من كبار المصدرين) يساعد غالباً في إشعال شرارة الأزمة. ولكن في عام 2022، انزلقت الأرجنتين إلى المتاعب حتى برغم أن أسعار السلع الأساسية كانت لا تزال حتى وقت قريب مرتفعة إلى عنان السماء، وهو ما يرجع بشكل كبير إلى الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
في الماضي، كانت الأرجنتين تقترض من الخارج غالبا، وكانت الضائقة المالية تحدث بمجرد توقف وال ستريت عن الإقراض. هذه المرة كان الأجانب عازفين عن الإقراض، ولهذا حدث الاقتراض في الداخل.
حتى وقت قريب، كانت وزارة الخزانة في الأرجنتين تصدر السندات المطلوبة، لكن السوق المحلية أيضاً أصبحت مجمدة، وعلى هذا فإن البنك المركزي يمول حصة متزايدة من العجز المالي بطباعة البيزو.
في محاولة غير مجدية في الغالب للحد من التأثير التضخمي المترتب على كل هذه النقود الجديدة، كان البنك المركزي يحاول تعقيمها بإصدار سندات ذات آجال استحقاق قصيرة، والتي تعادل الآن ما يقرب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولأن البنك المركزي مملوك من قِـبَـل وزارة الخزانة، لا يجد المدخرون المتشككون في سندات الخزانة أي سبب للاحتفاظ بالمزيد والمزيد من سندات البنك المركزي. وعند نقطة ما، ربما يرفضون شراء أو ترحيل هذه أيضا. عندئذ، تُـصبح أزمة الديون، أو طباعة الأموال دون ضابط أو رابط، أو كلا الأمرين، السبيل الوحيد إلى الأمام.
قد تبدو السياسات هزلية، لكن العواقب مأساوية. فقد بلغ التضخم السنوي أعلى مستوياته في ثلاثة عقود من الزمن وقد يصل إلى 80% هذا العام. من الممكن أن تعجل الحكومة بخفض سعر الصرف الرسمي على نحو منضبط أو هندسة خفض تدريجي لقيمة العملة؛ ولكن مع ارتفاع التضخم الآن، من غير المرجح أن يكون ذلك كافيا.
أو يمكنها اللجوء ببساطة إلى إحكام الضوابط الرأسمالية على أمل تحسن الأحوال. ولكن، في إعادة لصياغة عبارة أبراهام لينكولن، يمكنك أن تغلق بعض نوافذ تدفقات رأس المال بعض الوقت، لكنك لن تتمكن من إغلاق كل النوافذ طوال الوقت.
تعتمد استدامة السياسة المالية أيضاً على معدل نمو الاقتصاد وتكلفة الدين العام. ينمو اقتصاد الأرجنتين بمقدار ضئيل ويعاني من ركود الإنتاجية، وهو ما يرجع جزئياً إلى بنية ضريبية شديدة التشوه. ونظراً لتاريخها المالي المتقلب، يتعين على الحكومة أن تدفع أسعار فائدة أعلى كثيرا من غيرها من الدول الناشئة. وهنا تكمن المعضلة: إذ يتعين على الأرجنتين أن تعمل على إصلاح سياستها المالية إذا كان للاقتصاد أن ينمو، ويجب أن يزيد النمو من أجل جعل السياسة المالية مستدامة.
إن المشكلة المالية تتفاقم بفعل مشكلة سياسية. من الواضح أن أي وعود صادرة عن حكومة لا تكف أكبر شخصيتين على رأسها عن التشاجر لا بد وأن تفتقر إلى المصداقية.
تماماً كما كان الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون، الجمهوري، في أفضل وضع للسعي إلى التقارب مع الصين في عهد ماو تسي تونج، فإن البيرونيين اليساريين في الأرجنتين في أفضل وضع لإجراء تعديل مالي دائم. ولأنهم يرفضون القيام بذلك، فقد تنتهي الحال بالتضخم المفرط إلى القيام بالمهمة نيابة عنهم من خلال تسببه في تآكل القيمة الحقيقية للنفقات المالية.
في مجتمع حيث الثقة المتبادلة ضئيلة كما هي الحال في الأرجنتين، تكون الوسيلة الوحيدة التي يستطيع الساسة من خلالها إظهار رغبتهم في إنقاذ الاقتصاد هي تدميره أولاً. إن مهزلة الأرجنتين المتكررة على نحو لا ينقطع مأساة تامة.