الدول الغنية ومعاييرها المزدوجة في التعامل مع الضرائب
خوسيه أنطونيو أوكامبو
نيويورك ــ أبرز العامان الأخيران بوضوح شديد المظالم البنيوية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي. ففي حين دفعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) ما يقدر بنحو 88 مليون إلى 115 مليون شخص إلى براثن الفقر المدقع، زاد أصحاب المليارات في العالم ثرواتهم بأكثر من 25%. وفي حين تقدم بلدان الشمال العالمي الآن جرعات معززة من اللقاح، تواصل بلدان الجنوب العالمي النضال لتأمين حتى الجرعات الأولى لسكانها.
يرتبط هذا المستوى المروع من التفاوت ارتباطًا وثيقًا بالانتهاكات الضريبية المتفشية عبر الحدود، والتي ترتكبها على حد سواء شركات متعددة الجنسيات وأفراد أثرياء. من خلال رفض دفع نصيبها العادل من الضرائب، يحرم أولئك الأكثر ثراءً في العالم البلدان الفقيرة من الإيرادات التي هي في أمس الحاجة إليها لمواجهة الجائحة، بتأمين الجرعات من اللقاح ودعم المواطنين المستضعفين على سبيل المثال.
يزعم قادة مجموعة العشرين ــ بقدر كبير من الرضا عن الذات ــ أنهم يعالجون المشكلة: فقد وافقوا أخيراً على وضع حد أدنى عالمي لمعدل الضريبة، وبالتالي إنهاء "السباق إلى القاع" الذي يتغذى على المنافسة العالمية على الاستثمار الأجنبي. لكن المعدل المتفق عليه هو 15% فقط، ولا يستهدف سوى جزء ضئيل من أرباح 100 شركة متعددة الجنسيات. هذا لن يساعد البلدان الفقيرة إلا بقدر ما يساعد كوب من الماء في إخماد حريق هائل.
يوضح تقرير حالة العدالة الضريبية الجديد ــ الذي نُـشِـر بشكل مشترك من قِـبَـل شبكة العدالة الضريبية، ومنظمة الخدمات العامة الدولية، والتحالف العالمي من أجل العدالة الضريبية ــ حجم الحريق: 483 مليار دولار من الإيرادات العامة تُـهـدَر بسبب الانتهاكات الضريبية عبر الحدود كل عام. هذا المبلغ يكفي لتطعيم كل رجل وامرأة وطفل على ظهر كوكب الأرض ثلاث مرات.
من إجمالي الخسائر، تمثل انتهاكات ضرائب الشركات من قِـبَـل الشركات المتعددة الجنسيات نحو 312 مليار دولار، في حين يمثل التهرب الضريبي في الخارج من جانب أفراد أثرياء بقية المبلغ. ورغم أنَّ البلدان الأكثر ثراء تتحمل من الناحية الفنية نصيبا أكبر في هذه الخسائر، فإن البلدان الفقيرة هي التي تتحمل القدر الأعظم من المعاناة.
في الواقع، بينما تخسر البلدان المرتفعة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى نحو 443 مليار دولار بسبب الممارسات الضريبية الدولية الفاسدة سنويا، وهذا يعادل 10% فقط من ميزانيات الصحة العامة لديها، تخسر البلدان المنخفضة الدخل وذات الدخل المتوسط الأدنى نحو 40 مليار دولار ــ ما يعادل 48% من ميزانيات الصحة العامة لديها.
علاوة على ذلك، فإنَّ البلدان الغنية هي المسؤولة عن هذا الوضع. فهي لم تكتفِ برفض التصدي للمشكلة بطريقة هادفة؛ بل وتعمل أيضًا على تقديم الخدمات المالية التي تمكن الانتهاكات الضريبية الدولية.
والمملكة المتحدة، بالمشاركة مع شبكة أقاليم ما وراء البحار وتوابع التاج، مسؤولة عن 39% من مجمل الخسائر. في حين تمثل هولندا، ولوكسمبورج، وسويسرا 16% أخرى. وتُـعَـدُّ بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مجتمعة مسؤولة عن 78% من الخسائر الناجمة عن الانتهاكات الضريبية الدولية كل عام.
الواقع أنَّ المعايير المزدوجة صارخة بدرجة مذهلة. فقد جرى تصميم صفقة مجموعة العشرين الضريبية التي جرى الترويج لها بشدة بموجب الإطار الشامل بشأن تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. كما تحرص بعض البلدان ذاتها التي تمكن كل هذه الانتهاكات الضريبية ــ وأبرزها المملكة المتحدة وسويسرا ــ على منع التنازل عن حقوق الملكية الفكرة التي من شأنها أن تساعد على تمكين طرح اللقاحات بكميات ضخمة في الجنوب العالمي.
يثير هذا تساؤلات جدية حول ما إذا كانت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هي المؤسسة المناسبة لتنسيق المفاوضات الضريبية العالمية. صحيح أنَّ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية فتحت الطريق أمام أكثر من 100 عضو من خارج المنظمة للإدلاء بأصواتهم في المفاوضات. لكن العديد من مقترحات البلدان النامية استُـبـعِـدَت من الاتفاق النهائي.
ليس من المستغرب أن تكون البلدان الفقيرة بعيدة تمامًا عن الرضا عن هذه الحال. فبينما كانت بلدان مجموعة العشرين مجتمعة في روما في أواخر الشهر الماضي للتصديق على الاتفاق، كررت مجموعة السبع والسبعين، التي تمثل 134 اقتصادًا ناميًا، دعوتها القائمة منذ أمد بعيد لإنشاء هيئة ضريبية عالمية في الأمم المتحدة، تتولى المسؤولية عن إصلاح الضوابط التنظيمية الضريبية العالمية واتخاذ تدابير صارمة ضد الملاذات الضريبية في الخارج.
الواقع أنَّ هذا الاقتراح ــ الذي بموجبه تُـحَـوَّل لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالتعاون الدولي في المسائل الضريبية إلى منتدى حكومي دولي ــ تقدم به لأول مرة في عام 2004 الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي أنان وأنا شخصيًّا بصفتي وكيلًا للأمين العام للشؤون الاقتصادية والاجتماعية. وقد كررت مجموعة السبع والسبعين دعوتنا في عام 2015، في إطار مؤتمر الأمم المتحدة لتمويل التنمية في أديس أبابا.
كما كانت فكرة إنشاء هيئة ضريبية عالمية تابعة للأمم المتحدة بين التوصيات الرئيسة التي خلص إليها فريق الأمم المتحدة الرفيع المستوى المعني بالمساءلة المالية الدولية والشفافية والنزاهة من أجل تنفيذ أجندة 2030، واللجنة المستقلة لإصلاح الضرائب الدولية على الشركات (ICRICT). (أفخر بخدمتي في كليهما). وهي تتوافق مع مطالب المجتمع المدني العالمي.
لو أبرمت مجموعة العشرين صفقة عادلة للاقتصادات النامية، ما كانت مجموعة السبع والسبعين لتكرر دعوتها لإنشاء هيئة ضريبية تابعة للأمم المتحدة. لهذا السبب، طالَـبَـت اللجنة المستقلة لإصلاح الضرائب الدولية على الشركات باستمرار المفاوضات إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق ضريبي عالمي جديد أثناء رئاسة مجموعة العشرين من قِـبَـل إندونيسيا في عام 2022، والهند في عام 2023.
لكن إحراز تقدم حقيقي يتطلب تغيير المفاوضات شكلًا وموضوًعا، لضمان سماع أصوات البلدان النامية. وإذا كانت مجموعة العشرين جادة بشأن تصحيح الظلم الناتج عن الانتهاكات الضريبية عبر الحدود، فيتعين عليها أن تدعم الدعوة إلى إدارة عملية شاملة حقًّا تحت مظلة الأمم المتحدة.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
خوسيه أنطونيو أوكامبو وزير مالية كولومبيا الأسبق ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة سابقا، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا وسفير تحالف الغذاء واستخدام الأراضي.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org