الحجة لصالح سياسات الأسعار الاستراتيجية
جيمس ك. جالبريث
أوستن ــ بمقال واحد في صحيفة ذا جارديان (ومساعدة غير مقصودة من كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز بول كروجمان)، تمكَّنت إيزابيلا ويبر، أستاذة الاقتصاد في جامعة ماساتشوستس من ضخ تصوُّر واضح في قضية جدلية ظلَّت مكبوتة لأربعين عامًا. بشكل محدد، طرحت فكرة مفادها أنَّ استمرار ارتفاع الأسعار يستدعي الحاجة لسياسة سعرية. تخيلوا!
لقد أُلغي آخر أثر لسياسة سعرية منهجية في الولايات المتحدة، وهو مجلس الحفاظ على استقرار الأجور والأسعار التابع للبيت الأبيض، في 29 يناير/كانون الثاني من عام 1981، أي بعد أسبوع من تولي رونالد ريجان رئاسة البلاد. وقد وضع ذلك نهاية لسلسلة من السياسات التي بدأت في إبريل/نيسان من عام 1941 بإنشاء مكتب فرانك ديلانو روزفلت لإدارة الأسعار والإمداد المدني ــ أي قبل سبعة أشهر من الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر.
على مدار العقود الأربعة التالية، اتخذت السياسات السعرية الأميركية أشكالًا مختلفة. فخلال الحرب العالمية الثانية، سرعان ما أفسحت ضوابط الأسعار الانتقائية الطريق لوضع "تنظيم عام للحدود القصوى للأسعار" (مع استثناءات)، تلاه تجميد كامل مع: "اثبتوا على ما أنتم عليه" الصادر في إبريل/نيسان من عام 1943.
في عام 1946، أُلغيت ضوابط الأسعار (بسبب اعتراضات من بول سامويلسون واقتصاديين بارزين آخرين)، ليُعاد فرضها مرة أخرى في عام 1950 بسبب الحرب الكورية، ثمَّ أُلغيَت مجددًا عام 1953. وفي ستينيات القرن الماضي، وضعت إدارتا كينيدي وجونسون "معالم استرشادية" للتسعير، خالفتها شركة الصلب الأميركية، مما فجر صدامًا طويلًا ومريرًا. وفي العقد التالي، فرض ريتشارد نيكسون إجراءات لتجميد الأسعار في عامي 1971 و1973، مع سياسات أكثر مرونة سُمّيت فيما بعد "المراحل".
كان للسياسات التسعيرية الفيدرالية خلال تلك الفترة غرض مزدوج: معالجة الظروف الطارئة كالحروب (أو في حالة عام 1971 المثيرة للسخرية، وهي إعادة انتخاب نيكسون) وتنسيق التوقُّعات الأساسية للأسعار والأجور في وقت السلم حتى يصل الاقتصاد إلى مستوى التشغيل الكامل للعمالة بأجور حقيقية (معدلة حسب التضخُّم) تتوافق مع مكاسب الإنتاجية. وكما يبيِّن السجل الأميركي للنمو وإيجاد فرص عمل، والإنتاجية في مرحلة ما بعد الحرب، كانت تلك السياسات فعّالة للغاية، لذا اعتبرها عموم الاقتصاديين لا غنى عنها.
سيقت الحجج لصالح التخلُّص من السياسات التسعيرية بشكل رئيس من قِبَـل جماعات الضغط من أوساط التجارة والأعمال التي عارضت الضوابط لتدخُّلها في الأرباح وتعارضها مع ممارسة القوة السوقية. وقد أعطى اقتصاديون يمينيون ــ وعلى رأسهم ميلتون فريدمان وفريدريش فون هايك ــ أعضاء جماعات الضغط إجازة نظرية، فاخترعوا تصورات الشركات "ذات التنافسية الكاملة" التي تتوافر لها حرية تعديل أسعارها للحفاظ على تمتُّع الاقتصاد بخاصيتي التوازن الكامل والتشغيل الكامل للعمالة.
لم يشغل الاقتصاديون الذين تسيطر عليهم مثل تلك الخيالات مناصب ذات نفوذ عام قبل عام 1981. غير أنَّ الظروف العملية التي ساعدت على الحفاظ على سياسات تسعيرية ناجحة بدأت في التلاشي خلال السبعينيات. وتضاعفت المشكلات مع انهيار إدارة أسعار الصرف الدولية في عام 1971، وفقدان السيطرة على أسعار النفط في عام 1973، وبروز منافسين أجانب في مجال الصناعة (بداية بألمانيا واليابان، ثمَّ المكسيك وكوريا الجنوبية).
بدأت العلاقات مع العمالة المنظمة تسوء خلال حكم جيمي كارتر، الذي عيِّن أيضًا بول فولكر لإدارة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. لكن حتى أواخر الثمانينيات، فرض كارتر ضوابط للائتمان ــ وهو التحرُّك الذي حظي باستحسان شعبي لكن كلفه أيضًا على نحو مثير للجدال (عدم) إعادة انتخابه، نظرًا لانجراف الاقتصاد إلى فترة وجيزة من الركود.
نجح ريجان وفولكر فيما فشل فيه كارتر وهو السيطرة على التضخُّم، لأنهما كانا على استعداد لدفع ثمن باهظ وهو: بطالة تجاوزت 10% في عام 1982، وأزمة دين عالمية أسقطت أكبر البنوك الأميركية، وانتشار تراجع التصنيع، خاصة في الغرب الأوسط. وقد دافع اتجاه اقتصادي جديد ساد وقتها عن كل ذلك بالادعاء كذبًا بأنَّ السياسات التسعيرية كانت فاشلة على الدوام، ليبدأ عهد TINA (الأحرف الأولى من جملة باللغة الإنجليزية تعني "لا يوجد بديل").
عملت سياسات عصر ريجان أيضًا على تعبيد الطريق لصعود الصين. فكما توضح أعمال إيزابيلا ويبر البحثية، اعتمدت استراتيجية الصين الاقتصادية في الثمانينيات على وضع ضوابط للأسعار مع تعديلات بطيئة، بصورة تشبه حال السياسات الأميركية في الأربعينيات. بعد ذلك وفي التسعينيات ومع انهيار اقتصاد روسيا عقب تحرير الأسعار بشكل كبير ومفاجئ (والذي أطلق عليه وصف "الانفجار العظيم"، واصلت الصين السير في طريقها التدريجي، مما أتاح لصناعتها فرصة النضوج في الوقت الذي تراجعت فيه الصناعة الأميركية.
وها نحن الآن نسكن العالم الذي صنعه ريجان وفولكر والصين. فقد ظلَّ التضخُّم منخفضًا لسنوات كثيرة بسبب ركود الأجور وتدنى أسعار البضائع المستوردة من الصين (وهو ما ينطبق كذلك على أسعار الطاقة والسلع، بفعل قوة الدولار وازدهار الطاقة الصخرية لاحقًا). لكن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) أربكت هذا العالم، ليفاجئنا بصدمة في أسعار النفط ونواحي نقص في السيارات وبعض البضائع الأخرى. ومن هنا جاء "التضخُّم" الأميركي الحالي".
تندرج أسعار النفط تحت الأسعار الاستراتيجية الحالية. ورغم التراجع الحالي في أسعار النفط بفعل المبيعات من احتياطي النفط الاستراتيجي الأميركي، فإنَّ هذا إجراء مؤقت، حيث ستمثل سياسة الطاقة والتسعير تحديًا ضخمًا في المستقبل، نظرًا لحتمية تغيير شكَّل النظام بأكمله لتخفيف حدة تغيُّر المناخ.
بعد ذلك، تأتي قضيتا الرعاية الصحية وأسعار الأدوية التي ارتفعت إلى عنان السماء على وجه الخصوص. وقد يساعد في هذا الأمر وجود هيئة مشتريات عامة هنا، لكن يظل برنامج الرعاية الصحية للجميع، بضوابطه الواضحة للأسعار، حلا أفضل. كما يمكن لأي هيئة عامة ذات سلطة نسبية كبح جماح أسعار سلاسل التوريد المستمرة في الارتفاع، بوقف استغلال الأسعار الانتهازي، الذي يزيد الطين بلة.
أخيرًا، هناك قطاع الخدمات. إذ يجب رفع الأجور في هذا القطاع كإجراء عادل، ورغم احتمالية ظهور مثل تلك الزيادات في تدابير معالجة التضخُّم، فإنَّ أثرها سيكون محدودًا. وستأتي أكثر الشكاوى صخبًا من جانب هؤلاء الذين يميلون إلى أنَّ تكون الخدمات المقدمة إليهم زهيدة الثمن على حساب حرمان مقدميها من الحصول على أجور لائقة.
إذا أمكن حل مشكلات سلاسل التوريد، فمن المحتمل أن تخمد فورة التضخُّم الحالية أوائل الصيف المقبل، عندما تهبط في النهاية ارتفاعات العام الماضي الحادة في أسعار النفط والسيارات المستعملة من مستوياتها على مدار الاثني عشر شهرًا الماضية. لكن إذا استمرَّ التضخُّم، ينبغي للحكومة التدخل لإدارة الأسعار الاستراتيجية. وإذا أخفقت الحكومة في ذلك، سيكون أفضل خيار بعد ذلك الامتناع عن اتخاذ أي إجراء، والإعلان بشكل حاسم عن استخدام أدوات معززة للسياسات لحماية التشغيل الكامل للعمالة على حساب استقرار الأسعار، حسبما ينص القانون الأميركي.
أمّا الخيار الأسوأ فسيكون تمرير المشكلة إلى مجلس الاحتياطي الفدرالي، الذي سيرفع أسعار الفائدة ويحارب التضخُّم بترك الأميركيين عرضة للاستغلال من خلال القروض الطلابية والإيجارات والرهون وديون الرعاية الصحية، وطردهم من العمل في النهاية. هذا ما يدافع عنه عموم الاقتصاديين هذه الأيام بينما هم عالقون في طريقة التفكير الرجعية السائدة منذ أربعين عامًا.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al Semellawi
جيمس ك. جالبريث يشغل منصب أستاذ كرسي في قسم الإدارة الحكومية/علاقات الأعمال في كلية ليندون ب. جونسون للشؤون العامة التابعة لجامعة تكساس في أوستن، وقد شغل في السابق منصب مدير تنفيذي للجنة الاقتصادية المشتركة في الكونجرس الأميركي.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org