المرونة الاقتصادية وإيجابيات الانفتاح في حركة التجارة
جيفري فرانكل
إن التحليل السليم والمتعمق في واقع الاقتصاد العالمي، يؤكد لنا أن تحرير التجارة لن يكون كافياً للقضاء على التضخم، لكن الدرس الأوسع هو ذات الدرس المستفاد من قضايا وأزمات كثيرة واجهها عالمنا بالصدد ومفاده: الانفتاح على التجارة من الممكن أن يكون مصدراً للمرونة والقدرة على الصمود.
على مدار العام المنصرم، ابتليت اقتصادات رائدة بمشكلات جديدة. فالولايات المتحدة تناضل ضد عراقيل سلاسل التوريد، فضلاً عن نقص حاد في حليب الأطفال. ويواجه الاتحاد الأوروبي التهديد المتمثل في شُـح إمدادات الطاقة، بسبب العقوبات المفروضة على الصادرات من الوقود الأحفوري الروسي. وتعاني كل البلدان تقريباً من ارتفاع معدلات التضخم.
ألقى بعض المراقبين اللوم عن هذه المشكلات على الاعتماد المفرط على التجارة الدولية، أي العولمة. وأصبحت مصطلحات مثل انحسار العولمة، والتجزؤ، وإعادة توطين الصناعات، وإعادة التوطين في بلدان صديقة، والانفصال، والمرونة أو القدرة على الصمود، كلمات رنانة مألوفة الآن. وينتشر على نطاق واسع شعور بأن البلدان فرادى كانت لتصبح أقل عُـرضة للصدمات الأخيرة لو كانت تتمتع بقدر أكبر من الاكتفاء الذاتي.
تذهب هذه الحجة إلى ما يتجاوز ملاحظة أن سلاسل التوريد تعمل على توليد عائدات متناقصة للشركات الخاصة. اكتسبت السياسات الحكومية التي يعتبرها أهل الاقتصاد تدابير حماية دعماً سياسياً ملموساً ــ بدءاً من الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب في عام 2018. والانطباع السائد الآن هو أن الحواجز التجارية من الممكن أن تساعد في حمايتنا جميعاً.
لكن المشاكل المذكورة أعلاه هي في حقيقة الأمر أمثلة على الكيفية التي أدت بها الحواجز التجارية التي أقامتها الحكومات إلى تقليص المرونة والقدرة على الصمود. وفي كل حالة، من الممكن أن يساعد التحرير في تخفيف المشكلة.
لنبدأ باختناقات الشحن في الولايات المتحدة. العلاج هنا يتمثل في إلغاء قانون جونز، الذي يشترط تنفيذ كل عمليات الشحن بين الموانئ الأمريكية بواسطة شركات نقل أمريكية وتوظيف طواقم أمريكية بنسبة 75% على الأقل. اسـتُـن هذا التشريع في الأصل عام 1920، بهدف تعزيز اكتفاء الولايات المتحدة ذاتياً وأمنها القومي. لكن عجز الصناعة البحرية الأمريكية عن مواكبة الزيادات المفاجئة في الطلب، مثل الطلب على الواردات من البضائع خلال العام الفائت، ساهم في تأخيرات سلاسل التوريد. وفي غياب قانون جونز، تستطيع الشركات الأمريكية استئجار سفن مملوكة لأجانب لمواكبة مثل هذا الارتفاع، وستكون الخدمات اللوجستية أكثر مرونة.
أما عن ارتباكات النقل البري في الولايات المتحدة، فقد كان النقص في الهياكل السفلية لسيارات الشحن جزءاً من المشكلة. الحل هو التراجع عن التعريفة الجمركية الأمريكية التي تعترض سبيل الواردات من هياكل السيارات من الخارج، وهذا قد يساعد في سد الفجوة.
يستدعي نقص حليب الأطفال في الولايات المتحدة اتباع نهج مماثل. الواقع أن شركة أبوت نيوتريشن، وهو واحدة من أربع شركات منتجة لحليب الأطفال في الولايات المتحدة، سحبت بعض منتجاتها في فبراير بعد اكتشاف آثار بكتيريا في أحد مصانعها. صحيح أن عمليات سحب المنتجات من هذا القبيل شائعة، لكن النقص الحاد الناتج يوضح كيف كان من الممكن أن تعوض التجارة الدولية عن معظم النقص.
في حقيقة الأمر، لم يكن هناك نقص في حليب الـرُضَّـع في الأسواق الدولية، لكن الولايات المتحدة تقيم حواجز حماية شديدة ضد الواردات من منتجات الألبان. تشمل هذه الحواجز تعريفات جمركية، فضلاً عن عقبات إدارية تقييدية غير ضرورية وقواعد «اشتر المنتجات الأمريكية» التي تقيد برنامج الحكومة الفيدرالية التكميلي الخاص للنساء والرُضَّـع والأطفال. حتى إن ترامب زاد من ارتفاع الحواجز المفروضة على الواردات من حليب الأطفال من كندا عندما أعاد التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وأخيراً، وافقت إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة على تخفيف بعض الروتين للسماح بدخول الواردات مؤقتاً. ولكن لا ينبغي أن تُـقام مثل هذه الحواجز في المقام الأول.
بوسع المرء أن يستخلص استنتاجاً عامة من واقعة نقص حليب الأطفال. صحيح أن التعرض للتجارة الدولية قد يكون في بعض الأحيان مصدراً للتقلبات عندما تنشأ صدمات في الخارج. على سبيل المثال، كانت زيادة اعتماد ألمانيا بشكل طوعي على الغاز الطبيعي الروسي على مدار السنوات العشر الأخيرة سبباً في جعلها عُـرضة للخطر بشدة لأثناء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير، لكن التجارة الحرة من الممكن أيضاً أن تخفف من التقلبات عندما تنشأ الصدمة محلياً.
من ناحية أخرى، يريد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة استبدال مصادر الطاقة المتجددة بالوقود الأحفوري، وخاصة المشترى من روسيا. وتتمثل إحدى السياسات التي قد تساعد في تقليل تكلفة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في إزالة الحواجز أمام الواردات من الألواح الشمسية وتوربينات الرياح.
في السادس من يونيو، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن تعليق لمدة عامين للرسوم الجمركية الجديدة المرتقبة على الواردات من الألواح الشمسية. هذا مفيد لكل من البيئة وقدرة أمريكا على التعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، لكن الولايات المتحدة لا تزال تطبق التعريفات القديمة.
وكذا هي الحال في الاتحاد الأوروبي، حيث سيكون خفض الطلب على الوقود الأحفوري الروسي أصعب كثيراً. وسوف يكون التراجع عن التعريفات وغير ذلك من الحواجز التي تحول دون استيراد معدات الطاقة المتجددة خطوة في الاتجاه الصحيح.
أخيراً، يتلخص أحد العلاجات لمشكلة التضخم الحالية في خفض الحواجز المانعة للاستيراد في عموم الأمر. ما ينطبق على الهياكل السفلية للشاحنات، وحليب الأطفال، والألواح الشمسية، ينطبق أيضاً على السلع القابلة للتداول ككل ــ السلع الأساسية وكذا السلع المصنعة. كانت الرسوم الجمركية على الواردات من الأخشاب اللينة من كندا سبباً في تفاقم ارتفاع تكاليف بناء المساكن. كما تسببت الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الصلب والألمنيوم في زيادة الأسعار التي تدفعها الشركات الأمريكية، والتي ساهمت بدورها في ارتفاع الأسعار التي يدفعها المستهلكون لشراء المسامير، والسيارات، والعديد من المنتجات الأخرى التي تحتوي على المعدنين.
في دراسة حديثة، تشير تقديرات معهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن حزمة معقولة من تحرير التجارة من الممكن أن تؤدي إلى خفض مؤشر تضخم أسعار المستهلك في الولايات المتحدة لمرة واحدة بنحو 1.3 نقطة مئوية، بما يصل إلى 797 دولاراً لكل أسرة أمريكية. أوردت تقارير أن إدارة بايدن تدرس الآن التراجع عن بعض التعريفات التي فرضها ترامب على الواردات من الصين بشكل خاص، كواحدة من الخطوات الملموسة القليلة التي يمكنها اتخاذها، والتي من شأنها أن تساعد على الفور في تخفيف التضخم. سيكون التأثير على التضخم أقل من 1.3 نقطة مئوية، لأن «الحزمة الممكنة» الكاملة لن تُـعـتَـمَـد، لكنها ستكون خطوة مشجعة.
* أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد