الصين والغرب وآفاق «فك الارتباط»
جورج ماجنوس
لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، كان الاقتصاد العالمي يتسم بالتكامل الجامح وقدر غير مسبوق من الاتكالية المتبادلة. ولم تتمكن الخلافات السياسية ولا الحروب المحلية من إبطاء قطار العولمة. كانت الأسواق أسواقاً، وكانت الأعمال أعمالاً، وأصبحت الشركات المتعددة الجنسيات أكثر تعددية. لكن الآن، لم تعد هذه هي الحال.
في هذا العصر الجديد من المنافسة الاستراتيجية بين الصين والغرب، أصبح فك الارتباط الحالة الغالبة. وفي حين أن هذا الاتجاه سيعوق النمو الاقتصادي، ويزيد من تكاليف الأعمال (من خلال إعادة هيكلة سلاسل التوريد)، ويرفع الأسعار للجميع، فإن الاقتصاد الأكثر خسارة قد يكون اقتصاد الصين.
الجمهورية الشعبية استفادت كثيراً في التطور الذي هي عليه اليوم من العولمة. فقد دفعت التجارة الدولية، والاستثمار، والقدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال، النمو الاقتصادي، في حين ساعد نقل المعرفة ــ بدعم من المشاركة بين الطلاب، والعلماء، والباحثين ــ في تمكين رفع المستوى التكنولوجي.
كما حرصت الصين في ظل ارتباطاتها وعلاقاتها على إنشاء وإنفاذ قانون العقود والملكية الفكرية. وأفضى توسع قدرة اقتصاد الصين إلى تمكينها على نحو متزايد من استعراض القوة في الخارج.
لكن في السنوات الأخيرة، أفسح الانفتاح الذي قامت عليه العولمة ــ «المد المتصاعد الذي رفع كل القوارب» ــ المجال أمام عقلية الـمُـحَـصِّـلة الصِـفرية المركزة جيوسياسياً. وتشكلت التجارة الدولية والتمويل على نحو متزايد بفعل اعتبارات الأمن الوطني. وأصبحت ضوابط التصدير، وإدراج الشركات في قوائم سوداء، وفرض القيود على القدرة على الوصول إلى الأسواق في القطاعات الحساسة، مثل بعض التكنولوجيات المتطورة، من الممارسات الشائعة.
عكست المنافسة الصينية الأمريكية هذا التحول وزادت من سرعته. فقد استهدفت الولايات المتحدة الصين بمجموعة متنوعة من التدابير ــ بما في ذلك فرض القيود على الواردات، والصادرات، والاستثمار ــ وأضافت عشرات من الشركات الصينية إلى ما يسمى «قائمة الكيانات». كما زادت دول أخرى من التدقيق في الاستثمار الصيني وقيدت أشكالاً بعينها من التبادلات التجارية مع الصين. كما فُـرِضَـت العقوبات على الصين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ وهونغ كونغ.
ربما لم تبادر الصين بعملية فك الارتباط، لكنها تبدو ملتزمة بإنجازها.
إلى جانب العقوبات والتعريفات الجمركية الانتقامية، كانت الصين حريصة على تكثيف جهودها لتصبح معتمدة على ذاتها في مجالات التكنولوجيا والعلوم المتقدمة، بالاستعانة بسياسات صناعية معتمدة بشكل كبير على الدولة وتدابير الحماية. ويتلخص هدفها الآن في جعل اقتصادها «مقاوماً للعقوبات»، وخاصة من خلال إزالة المكون الأمريكي في سلاسل التوريد التي تخدمها.
ينبغي لنا أن نتوقع استمرار فك الارتباط الذي تحركه عوامل جيوسياسية. سوف تحاول الصين تشييد بنية أساسية مالية بديلة، وسوف تشطب الولايات المتحدة شركات صينية من بورصاتها. يُـقـال إن الكونغرس الأمريكي يدرس بالفعل تشريع يقضي بتقييد أو حظر الاستثمار المباشر الأجنبي الأمريكي في الخارج في العديد من القطاعات الحساسة، مثلما يفعل مع الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة. من المتوقع أيضاً اتخاذ تدابير تجارية تهدف إلى تنويع سلاسل التوريد وضمان الإمدادات من المدخلات الحرجة، مثل العناصر الأرضية النادرة.
مع تقدم فك الارتباط، من المرجح أن تنقسم العديد من القطاعات الحرجة ــ مثل الإنترنت ــ إلى كتلتين منفصلتين، لكل منهما قواعدها ومعاييرها الخاصة. وسوف يتزايد اتساع فجوة التفاوت في المعايير الرقمية، وإدارة البيانات ومعايير الاستخدام، ومعدات الشبكات وخدمات الاتصال. وسوف تنتشر القيود التي تحول دون القدرة على الوصول إلى الأسواق فضلاً عن متطلبات الموافقة والترخيص الجديدة.
يبدو أن الصين الآن ملزمة باتخاذ الاحتياطات المهمة إزاء الكثير من المسائل لكي تحافظ على مكانتها الاقتصادية، ومن بينها التدابير الإجرائية الغربية في مواجهة اقتصادها، وأيضاً واقع أنه ستتراجع أيضاً تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الصين، مع تخصيص التمويل على نحو متزايد لبلدان آسيوية وأسواق ناشئة أخرى. كما سيحرص المستثمرون الدوليون على الإبقاء على محافظهم في الصين أقل وزناً. ورغم أن الرنمينبي سيتمتع بمكانة مساوية للين الياباني، والجنيه الاسترليني، والدولار الكندي، فإنه لن يقترب من إزاحة الدولار الأمريكي.
* باحث مشارك في مركز الصين التابع لجامعة أكسفورد وكلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، وهو مؤلف كتاب «رايات حمراء» (مطبعة جامعة ييل، 2018)