التضخم والتمويل المحفوف بالمخاطر
يانيس فاروفاكيس
في كثير من الأحيان، تستدعي الأزمات الاقتصادية المحورية تفسيرات متعددة، جميعها صحيحة، لكنها في غير محلها. عندما انهارت مؤسسات وال ستريت في عام 2008، ما أدى إلى إشعال شرارة الركود العظيم العالمي، جرى تقديم تفسيرات متباينة: الاستحواذ التنظيمي من قِـبَـل هيئات التمويل التي حلت محل الصناعيين في النظام الرأسمالي المزعج؛ والنزوع الثقافي نحو التمويل المحفوف بالمخاطر؛ وفشل الساسة وأهل الاقتصاد في التمييز بين نموذج جديد وفقاعة ضخمة؛ وغير ذلك من النظريات.
كل تلك التفسيرات كانت صحيحة، لكن لم يَـنفذ أي منها إلى صلب الحقيقة. لقد بدأت لعبة تبادل اللوم عن الأسعار المتزايدة الارتفاع، بين الدول وأيضاً المؤسسات المتنوعة.
الواقع أن أنصار النظرية النقدية الذين رفعوا شعار «ألم نقل لكم ذلك»، والذين ظلوا يتوقعون التضخم المرتفع منذ عملت البنوك المركزية على توسيع ميزانياتها العمومية بشكل كبير في عام 2008، يذكرونني بالابتهاج الذي شعر به في ذلك العام اليساريون (من أمثالي) والذين «توقعوا» على نحو متماسك اقتراب الرأسمالية من الموت ــ على نحو أشبه بساعة متوقفة تقدم الوقت الصحيح مرتين في اليوم.
من المؤكد أن البنوك المركزية تسببت من خلال خلق عمليات سحب على المكشوف ضخمة لصالح القائمين على البنوك، على أمل زائف في أن تتقاطر الأموال إلى الأسفل حيث الاقتصاد الحقيقي، في إحداث حالة ملحمية من تضخم أسعار الأصول (ازدهار أسواق الأسهم والإسكان، وجنون العملات المشفرة، وغير ذلك).
من الواضح أن انقطاع سلاسل التوريد يلعب دوراً مهماً. ولكن لم يفسر أي من العاملين «تغيير نظام» الرأسمالية الغربية المفاجئ من الانكماش السائد إلى نقيضه: ارتفاع كل الأسعار في وقت واحد.
لكن مطالبة العمال بالتخلي عن مكاسب الأجور اليوم أمر سخيف. إذ تشير كل الأدلة إلى أن الأجور، على عكس ما حدث في سبعينيات القرن العشرين، ترتفع بشكل أبطأ كثيراً من الأسعار، ومع ذلك فإن الزيادة في الأسعار لا تستمر فحسب، بل تتسارع.
ما الذي يحدث حقاً إذن؟ إجابتي هي: نصف قرن من تكتيكات استعراض القوة بقيادة الشركات، ومؤسسات وال ستريت، والحكومات، والبنوك المركزية، والتي انتهت إلى فشل ذريع. نتيجة لهذا، تواجه السلطات الغربية الآن اختياراً مستحيلاً: دفع التكتلات بل وحتى الدول إلى الإفلاس على نحو متوال، أو السماح للتضخم بالارتفاع دون ضابط أو رابط.
على مدار خمسين عاماً، حافظ الاقتصاد الأمريكي على صافي الصادرات لأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، ثم الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة، في حين تدفق نصيب الأسد من أرباح هؤلاء الأجانب إلى وال ستريت بحثاً عن عوائد أعلى.
على خلفية هذا التسونامي من رأس المال المتجه إلى أمريكا، كان الممولون يبنون أهرامات من المال الخاص (مثل الخيارات والمشتقات) لتمويل بناء الشركات لمتاهة عالمية من الموانئ، والسفن، والمستودعات، وساحات التخزين، والنقل البري وبواسطة السكك الحديدية.
لإنقاذ المصرفيين، بل وحتى المتاهة ذاتها، تدخل القائمون على البنوك المركزية لاستبدال أهرامات الممولين بالمال العام. من ناحية أخرى، كانت الحكومات حريصة على خفض الإنفاق العام والوظائف والخدمات. لم يكن ذلك أقل من اشتراكية سخية لصالح رأس المال وتقشف بالغ القسوة للعمال. فتقلصت الأجور، وركدت الأسعار والأرباح، لكن أسعار الأصول التي يشتريها الأثرياء (وبالتالي ثرواتهم) ارتفعت إلى عنان السماء.
كانت تكتيكات استعراض القوة من نوع جديد. فقد استمر الصراع التقليدي بين رأس المال والعمل لزيادة حصة كل من الطرفين من إجمالي الدخل من خلال رفع هامش الربح وزيادات الأجور، لكنه لم يعد مصدراً لأغلب الثروة الجديدة.