أميركا والركود المزدوج المقبل
ستيفن س. روتش
نيوهافين ــ "الركود المزدوج"، هذا ليس تعبيراً غريباً. إنه الميل التقليدي الذي يميز الاقتصاد الأميركي إلى الارتداد إلى الركود بعد التعافي المؤقت. على مر السنين، حدث ذلك مراراً وتكراراً. وعلى الرغم من الأسواق المالية السطحية، التي بدأت حاليا تُـسـقِـط من الاعتبار حالة السعادة المطلقة المتمثلة في التعافي السريع على هيئة حرف V، فهناك حجة مقنعة لصالح قدوم ركود مزدوج آخر في أعقاب صدمة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) المدمرة في أميركا.
يحذرنا تاريخ دورة الأعمال المروع في أميركا من الشعور بالرضا أو التراخي. حدث الركود المزدوج ــ الذي يمكن تعريفه ببساطة على أنه انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ربع السنوي في أعقاب انتعاش مؤقت ــ في ثماني حالات ركود من أصل إحدى عشرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت الاستثناءات الوحيدة حالات الركود في الفترة من 1953-1954، والانكماش الوجيز في عام 1980، والتراجع المعتدل في الفترة من 1990-1991. جميع الحالات الأخرى انطوت على ركود مزدوج، وحالتين من الركود الثلاثي ــ بدايتين خاطئتين أعقبتهما انتكاستان.
بطبيعة الحال، لا يأتي الركود المزدوج من فراغ. إنه يعكس مزيجاً من الضعف المتواصل في الاقتصاد الأساسي وتوابع ضربة الركود الأولية. وكقاعدة عامة، كلما ازدادت حدة الانكماش، كان الضرر أعظم، وطالت فترة الشفاء وارتفعت احتمالات الركود المزدوج. كانت هذه هي الحال أثناء الركود الحاد في الفترات 1957-1958، و1973-1975، و1981-1982، وكذا الانكماش الكبير الذي صاحب الأزمة المالية العالمية خلال الفترة من 2008-2009.
الواقع أنَّ الركود الحالي يشكل أساساً كلاسيكياً للركود المزدوج. فمن الصعب أن يشكك أحد في نقاط الضعف المستمرة في أعقاب انخفاض بلغ 32.9% على أساس سنوي والمسجل في الربع الثاني من عام 2020 ــ وهو إلى حدٍّ بعيدٍ أكبر انخفاض ربع سنوي مسجل على الإطلاق. وقد بدأ الاقتصاد، الذي تضرر على نحو غير مسبوق بسبب الإغلاق لمكافحة فاشية كوفيد-19 الأولية ــ يتعافى بالكاد. ويُـعَـد الارتداد الحاد في الربع الحالي مسألة حسابية بسيطة ــ ويكاد يكون مضموناً بفعل إعادة فتح الشركات المغلقة جزئيا. ولكن هل يستمر التعافي، أو تحدث الانتكاسة؟
من الواضح أن الأسواق المالية ليست قلقة على الإطلاق من الانتكاس، ويرجع هذا إلى حد كبير إلى برنامج التيسير النقدي غير المسبوق، الذي استحضر الحكمة القديمة: "لا تقاوم بنك الاحتياطي الفيدرالي". ويأتي قدر من الراحة الإضافية من الإغاثة المالية غير المسبوقة بذات القدر والتي تهدف إلى تخفيف الصدمة المرتبطة بالجائحة التي أصابت الشركات والأسر.
كل هذا قد يكون محض أماني. فالمشكلة الأساسية تكمن في الفيروس ذاته، وليس الحاجة إلى ضخ السيولة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي أو الدعم المؤقت بالاستعانة بحزمة مالية. صحيح أنَّ التدابير النقدية والمالية من الممكن أن تخفف من ضائقة الأسواق المالية، لكنها لن تفعل الكثير، إن كانت لتفعل أي شيء، لحل قضايا الأمن الصحي الأساسية التي تؤثر في الاقتصاد الحقيقي.
مع بقاء الولايات المتحدة في قبضة الجائحة، تبدو الحجة لصالح التعافي المستدام واهية. ورغم أنَّ انتعاش الإنتاج وتشغيل العمالة يدعم التقدم الكبير على جانب العرض في الاقتصاد، فإن هذه المكاسب بعيدة عن الاكتمال. خلال شهر يوليو/تموز، استعاد تشغيل العمالة في القطاعات غير الزراعية 42% فقط من الخسائر التي تكبدها في فبراير/شباط ومارس/آذار، ولا يزال معدل البطالة عند مستوى 10.2% يقارب ثلاثة أضعاف مستوى ما قبل كوفيد-19 الذي بلغ 3.5%. على نحو مماثل، ظل الإنتاج الصناعي في يوليو/تموز أقل من أعلى مستويات سجلها في فبراير/شباط بنحو 8%.
لكن الشفاء على جانب الطلب كان أكثر تردداً. هذه هي الحال بشكل خاص بالنسبة إلى مكونات رئيسة للاستهلاك التقديري ــ وخاصة التسوق بالتجزئة، فضلاً عن الإنفاق على المطاعم، والسفر، والترفيه. تشير المشاركة الكاملة في هذه الأنشطة ــ التي تنطوي جميعها على الاتصال البشري وجها لوجه ــ إلى مخاطر صحية لا يرغب أغلب السكان في خوضها، وخاصة في ظل معدلات العدوى المرتفعة، والافتقار إلى العلاجات القوية، وغياب اللقاح.
لوضع تأثير الجائحة في منظوره الصحيح، ينبغي لنا أن نضع في الاعتبار أنَّ قطاعات مثل النقل، والتسلية والترفيه، والمطاعم، وأماكن الإقامة ــ القطاعات الأكثر حساسية لكوفيد-19 في الطلب الاستهلاكي ــ كانت تمثل 21% من إجمالي إنفاق الأسر على الخدمات في الربع الأول من عام 2020، قبل أن تضرب الجائحة البلاد بكامل قوتها. وقد هبط الإنفاق المجمع على هذه الفئات بمعدل سنوي بلغ 86% بالقيمة الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم) في الربع الثاني من العام.
تؤكد البيانات الشهرية حتى شهر يونيو/حزيران على الرياح المعاكسة التي تعوق هذه القطاعات المهمة من الاستهلاك التقديري. وعلى الرغم من ارتداد مجموع الإنفاق الاستهلاكي على السلع المعمرة وغير المعمرة إلى 4.6% فوق مستويات ما قبل الجائحة (بالقيمة الحقيقية)، فإنَّ إنفاق الأسر على إجمالي الخدمات ــ وهو المكون الأكبر بأشواط في إجمالي الاستهلاك ــ استعاد 43% فقط من الخسائر الناجمة عن الإغلاق.
في مجمل الأمر، يشير هذا إلى ما يمكن تسميته بالتطبيع غير المتزامن ــ التعافي الجزئي الذي يستمد من جانب العرض دعماً أكبر من ذلك الذي يستمده من جانب الطلب. الواقع أنَّ الولايات المتحدة ليست وحدها في هذا الصدد. والنتائج المماثلة واضحة في اقتصادات أخرى ــ حتى الصين ــ التي يُـعَـدُّ نظامها الموجه من قِـبَـل الدولة أكثر فاعلية في القيادة والسيطرة على جانب العرض مقارنة بقدرته على التأثير في المعايير السلوكية التي تشكل الاستهلاك الأسري الحساس للجائحة على جانب الطلب.
لكن التطبيع غير المتزامن للاقتصاد الأميركي يختلف تمام الاختلاف في أحد الجوانب الأساسية: ذلك أن فشل أميركا الذريع في احتواء الفيروس لا يؤكد فقط المخاوف بشأن العدوى، بل ويثير أيضاً الاحتمال الواضح لاندلاع موجة جديدة من كوفيد-19. فعلى الرغم من تراجع حالات الإصابة الجديدة خلال الشهر الأخير، فإنَّ عدد الإصابات اليومية الذي بلغ نحو 48000 في الأسبوع المنتهي في العشرين من أغسطس/آب كان أكثر من ضعف المعدل المسجل في مايو/أيار ويونيو/حزيران.
إلى جانب معدل الوفيات الذي بلغ في المتوسط ما يزيد قليلاً على 1000 وفاة يومياً منذ أواخر يوليو/تموز ــ ومن المتوقع أن يظل عند هذا المستوى لبقية العام ــ تكتسب هذه الوتيرة المرتفعة للعدوى قدراً أكبر من الأهمية كمؤشر للتنبؤ بما قد يأتي لاحقاً. ومن غير المرجح في مثل هذا المناخ أن تهدأ مخاوف المستهلكين ــ وتأثير هذه المخاوف في الخدمات الحساسة للجائحة ــ بل وقد تتفاقم إذا حدثت موجة جديدة.
هنا تكمن الحجة لصالح ترجيح الركود المزدوج. إنَّ التطبيع الجزئي غير المتزامن في أعقاب أسوأ صدمة اقتصادية على الإطلاق يشير إلى استمرار ضعف الاقتصاد الأميركي. ويؤكد الفشل في احتواء الفيروس على الاحتمال الواضح لحدوث توابع. وهذه على وجه التحديد التركيبة التي أدَّت إلى حالات الركود المزدوج السابقة. ومع ذلك، تقترن الأسواق المالية الضحلة بسرد التعافي الكلاسيكي على هيئة حرف V. في حين يشير التاريخ إلى نتيجة مختلفة تماماً.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ومؤلف كتاب "علاقة غير متوازنة: الاتكالية المتبادلة بين أميركا والصين".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org