الركود المزدوج في أمريكا

لورا تايسون وليني ميندونكا

بيركلي- مع اقتراب حلول فصل الخريف وبدأ الموسم الدراسي الجديد، يتصارع الأميركيون مع الاضطرابات المترابطة في مجالات الصحة، والاقتصاد، والحياة الأسرية، والعلاقات بين الأعراق. وكان وقع أزمة كوفيد-19 أشد وطأة على أكثر الفئات هشاشة: الأشخاص ذوي البشرة الملونة، والذين يعانون من إعاقة معينة، والمهاجرون، والنساء، والأشخاص الأقل تعليماً، والعمال الآخرون المحاصرون في وظائف محفوفة بالمخاطر، وغير النظامية، والمنخفضة الأجور دون تأمين صحي أو مزايا تذكر . والأسوأ من ذلك، أنَّ الوظائف المعرضة للركود الناجم عن الوباء تتداخل مع تلك التي ستكون عرضة لتسريع الرقمنة والتشغيل الآلي في وقت يتعافى فيه الاقتصاد.

ويشير كل هذا إلى ركود "مزدوج" يعاني فيه "الأثرياء" في أمريكا من ضربة أخف بكثير من "الفقراء". إذ في بداية عام 2020، كان العمال الذين يتقاضون أجورًا أقل من متوسط الأجر في الساعة يشكلون ما يقدر بنحو 44٪ من جميع العمال، على الرغم من معدلات البطالة المنخفضة القياسية، وارتفاع الأجور في أسفل سُلم توزيع الدخل، (ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ إلى زيادات الحد الأدنى للأجور في العديد من الولايات). والعمال الذين يتقاضون أجوراً منخفضة هم أكثر احتمالاً مرتين لامتلاك شهادة لا تزيد على مستوى الدراسة الثانوية من العمال ذوي الأجور المتوسطة والعالية. وما يقارب 54٪ من هؤلاء العمال نساء، و45٪ منهم من أصحاب البشرة الملونة، الذين يشكلون نسبة عالية بالنسبة لحصتهم من إجمالي القوى العاملة.

ويشتغل معظم العمال ذوي الأجور المنخفضة في المجالات التي تعتمد على أيدٍ عاملة كثيفة، وفي الترفيه الشخصي، والضيافة، وخدمات البيع بالتجزئة، والنقل، التي انهارت جميعها نتيجة الإغلاق، والتباعد الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، أدى الوباء إلى زيادة الطلب على الخدمات الرقمية، التي خففت من حدة فقدان الوظائف للحاصلين على تعليم جامعي أو أعلى من ذلك. إذ في يونيو/حزيران، بلغ معدل البطالة في صفوف الأشخاص الذين حصلوا على تعليم ثانوي 12.1٪ مقارنة بـ6.9٪ بالنسبة للأشخاص الحاصلين على تعليم جامعي. وتُظهر الاستطلاعات التي بدأت منذ منتصف إبريل/نيسان أنَّ حوالي نصف المواطنين الأمريكيين الذين يعملون في العادة، يزاولون أنشطتهم الآن من منازلهم، لكن العمال ذوي الدخل المرتفع أكثر احتمالاً للقيام بذلك ست مرات مقارنة مع العمال ذوي الأجور المنخفضة. إذ يعمل العديد من العمال الذين لم يفقدوا وظائفهم المنخفضة الأجور، في قطاعات أساسية ولكنها عالية الخطورة مثل تعبئة اللحوم، وتجهيز الأغذية.

ولا يؤدي الوباء إلى مزيد من الاستقطاب في سوق العمل الأمريكية فحسب، بل إنه يفرض أيضًا تكاليف على السكان الأكثر عرضة للخطر بصورة غير متناسبة. إذ يقول تقرير صدر أخيراً، أن 56٪ من العائلات من ذوي البشرة السوداء، تعرَّضت لخسارة في العمل أو في الدخل مقابل 44٪ فقط من العائلات البيض، بين مارس/أذار ومايو/أيار. وكذلك، كانت الوفيات جراء الفيروس نفسه أعلى بصورة غير متناسبة بين المواطنين السود وذوي البشرة السمراء.

وفي جميع أنحاء البلاد، يواجه العديد من العمال الخيار المستحيل المتمثل في رعاية أطفالهم أو الذهاب إلى وظائفهم الأساسية والمنخفضة الأجر. إذ مع تقلب خطط المدارس الخريفية، سرعان ما أصبحت مسؤولية رعاية الأطفال على عاتق النساء، مما يهدد بإعاقة عقود من التقدم في سد فجوات الأجور، والفرص بين الجنسين.

وسيتطلب عكس مسار الظلم الاقتصادي الذي سببه للوباء، ومعالجة التفاوتات الهيكلية الصارخة التي كشف عنها تعافيًا مستدامًا وشاملًا، يعتمد على الوظائف الجيدة لجميع العمال. وتتمثَّل الأولوية الأولى في طرح خطة فورية لاحتواء كوفيد-19، وخطة انتعاش من شأنها أن تستعيد الطلب على العمالة. وحتى التوقعات المتفائلة لا تتوقع العودة إلى مستويات التوظيف لعام 2019 قبل حلول عام 2022. وهناك كل الأسباب لتوقع أنَّ العديد من الوظائف المفقودة- ربما تصل إلى 40٪- لن تعود أبدًا. وعلى المدى القصير إلى المتوسط، تكمن المفارقة المأساوية في أن فرص العمل نادرة وتدفع أجوراً هزيلة للغاية.

ثانيًا، تحتاج الولايات المتحدة بشدة إلى تقوية شبكة الأمان الاجتماعي الخاصة بها، وتحسين ظروف العمال ذوي الأجور المنخفضة من خلال مزيج من أعلى حد أدنى للأجور، وائتمانات ضريبة الدخل المكتسبة، وتوسيع نطاق المعونة الطبية لتشمل جميع الولايات. ثالثًا، هناك حاجة إلى سياسات التدريب، وسوق العمل النشط لربط العمال بفرص عمل أفضل في المستقبل. وفي عالم مثالي، سيعود العمال السابقون من ذوي الأجور المنخفضة إلى الاقتصاد في وظائف تتطلب مهارات وذات أجور مرتفعة.

ومن المؤكد أنَّ تحسين مهارات 44٪ من القوة العاملة الأمريكية لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها. ولكننا نعرف بالفعل الخصائص الأساسية لبرامج التدريب الناجحة: الروابط القوية مع أصحاب العمل، والمجتمعات المحلية؛ التركيز على قطاعات ومهن محددة؛ الفرز لمطابقة المتقدمين مع المهن المستهدفة؛ والخدمات الفردية لإكمال البرنامج والنجاح الوظيفي. وتتمثل المهمة في جعل هذه البرامج ميسورة التكلفة، مع تضمين المساعدة الشاملة مثل الاستشارة ورعاية الأطفال.

وتقوم العديد من الولايات والمدن بالفعل بتطوير نماذج تدريب القوى العاملة الناجحة. إذ تشارك 31 ولاية في شبكة الولاية الماهرة، وتعمل على زيادة برامج التلمذة المهنية، والتدريب على المهارات بناءً على الظروف الاقتصادية المحلية. ففي سان أنطونيو، يساعد برنامج Project QUEST (بروجيكت كويست) الأشخاص البالغين غير المهرة- 68٪ منهم من النساء، و66٪ من أصول لاتينية- على الحصول على شهادة ما بعد الثانوية، ثمَّ يوفر لهم فرص عمل جيدة الأجر في قطاعات قوية من الاقتصاد المحلي (الرعاية الصحية، والتصنيع، والحرف، وتكنولوجيا المعلومات). وفي 2018-2019، رفع خريجو البرنامج أجورهم السنوية بنسبة 203٪. وتقول دراسة أنجزت أخيراً، أن أجور المشاركين استمرت في الارتفاع لمدة تسع سنوات بعد استكمال تدريبهم في البرنامج.

وكذلك، يجمع برنامج UpSkill Houston (أبسكيل هيوستن) الذي يرتكز على احتياجات أرباب العمل، بين التدريب على المهارات وبرامج الكليات المجتمعية من أجل تجهيز العمال المرشحين للحصول على وظائف في القطاعات المحلية الرئيسة، بما في ذلك البتروكيماويات؛ والبناء الصناعي والتجاري، والرعاية صحية؛ والصناعات المينائية والبحرية واللوجستية. وتتطلب معظم هذه الوظائف تدريبًا على المهارات التقنية، وليس شهادة استكمال أربع سنوات من الدراسات الجامعية.

وتعدُّ كليات المجتمع لحد الساعة أهم مقدمي هذا النوع من التدريب. وبالفعل، قدمت 17 ولاية (ذات ميول جمهورية وديمقراطية على حد سواء) شكلاً من أشكال الكليات المجتمعية "دون رسوم دراسية"، وهناك 12 ولاية أخرى لديها تشريعات مماثلة معلقة. واقترح نائب الرئيس السابق، جو بايدن، المرشح الرئاسي الديمقراطي المفترض، شراكة على المستوى الاتحادي وعلى مستوى الولايات لتوفير كلية مجتمعية دون رسوم دراسية لمدة تصل إلى عامين. كما يريد تخصيص 50 مليار دولار لدعم برامج تدريب القوى العاملة؛ وتطوير شهادات قصيرة الأجل من خلال الصناعة، والنقابات، والشراكات بين المجتمع والجامعات؛ وتوسيع نطاق برنامج التدريب المهني المسجل.

ويؤدي الاضطراب في العمل الناجم عن الوباء إلى تسريع الانتقال من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد الرقمي. وهذا يعني أنَّ التدريب على المهارات الرقمية سيكون ضروريًّا لمعظم الوظائف الجيدة في المستقبل. لذلك، لدى الولايات المتحدة خيار بين اثنين: يمكنها أن تصبح رقمية مع مستويات أعلى مما هي عليه بالفعل من عدم المساواة، وهو ما سيؤدي إلى اقتصاد "مزدوج" غير فعال وغير مستدام، أو يمكنها الاستثمار في عُمالها حتى تصبح وظائف اليوم "السيئة" وظائف الغد الجيدة.

ترجمة: نعيمة أبروش  Translated by Naaima Abarouch

شغلت لورا تايسون سابقا منصب رئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي، وتشغل حاليا منصب أستاذة المدارس الجامعية العليا في كلية بيركلي هاس للأعمال، ومنصب رئيسة مجلس أمناء مركز بلوم في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. ويشغل ليني ميندونكا، منصب الشريك الفخري الأول في شركة McKinsey & Company، (كامبني أند ماكنزي)، وشغل سابقاً منصب كبير المستشارين الاقتصاديين والتجاريين لحاكم ولاية كاليفورنيا، جافين نيوسوم، ومنصب رئيس هيئة السكك الحديدية الفائقة السرعة في كاليفورنيا.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org