اتحاد أسواق رأس المال هو مفتاح التحوُّل الأخضر لأوروبا
كريستيان سوينج، وفيرنر هوير
بروكسل ـ أشار جان مونيه ذات مرة، وهو أحد مهندسي الاتحاد الأوروبي، إلى أنَّ الوحدة الأوروبية سوف تتشكل في الأزمات، وستكون مجموع الحلول المعتمدة في التعامل مع هذه الأزمات. وقد قدم العقد ونصف العقد الماضي تأكيدًا إضافيًّا لتنبؤات مونيه. وعلى عكس توقعات العديد من خبراء الاقتصاد البارزين، نجح الاتحاد الاقتصادي والنقدي في الاتحاد الأوروبي في تخطي أزمة ديون اليورو وما زال قوياً بفضل آلية تحقيق الاستقرار الأوروبية. وقد ساعدت خطة يونكر "خطة الاستثمار في البنية التحتية للاتحاد الأوروبي" في إعادة الاقتصاد الأوروبي إلى مساره الصحيح، وقد ساعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على توحيده، بعيدًا عن تفكيك الاتحاد الأوروبي.
يُثبت الاتحاد الأوروبي مرة أخرى جدارته في مواجهة جائحة فيروس كوفيد 19. فقد طور الباحثون البارزون في شركة التكنولوجيا الحيوية الألمانية "بيونتيك" لقاحًا رائدًا في وقت قياسي، وأتاحت عمليات الشراء المشتركة توزيع اللقاحات بشكل عادل وفعّال (على الرغم من مواجهة بعض الصعوبات الأولية)، الأمر الذي ضمن معدلات تطعيم مرتفعة نسبيًّا في العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. تُساعد خطة الانتعاش وصندوق الضمان الأوروبي اليوم الدول والمناطق الأضعف اقتصاديًّا على التعامل مع آثار الجائحة.
ومنذ عام 2000، أثبت الاتحاد الأوروبي مرارًا قدرته على تقديم الحلول الفعّالة وإظهار التضامن. لكن البحث المستمر عن حلول سريعة للأزمات الحادة له جانب سلبي كبير: فقد تحوَّل مشروع استكمال السوق الأوروبية الموحدة إلى أسفل جدول الأعمال السياسي. لم تلعب مثل هذه القضايا على مستوى الاتحاد الأوروبي أي دور في الحملة الانتخابية الألمانية هذا العام، على الرغم من أنَّ تعزيز السوق الموحدة يُعدُّ أمرًا حاسمًا لمواجهة المنافسة الاقتصادية المتزايدة من جانب الولايات المتحدة والصين.
إنَّ أوروبا ببساطة لا تُدرك إمكانياتها. يمتلك الاتحاد الأوروبي بالفعل سوقًا موحدة للسلع ولكنها ليست سوقًا تعمل بشكل كامل للخدمات، ولاسيما في الاقتصاد الرقمي المزدهر. إذا عملت إحدى الشركات الناشئة في وادي السيليكون على تطوير منتج جيد، فإنها تتمتَّع بالقدرة على الوصول الفوري إلى سوق محلية ضخمة ويمكن أن تنمو إلى درجة تمكنها من الاحتفاظ بالمنتج الخاص بها على الصعيد العالمي. لكن في أوروبا، سيتعين على نفس الشركة الناشئة أن تقضي سنواتها الأولى في التعامل مع العديد من محامي الضرائب الأجانب والهيئات التنظيمية الوطنية إلى الحد الذي يجعل التوسُّع الدولي بلا قيمة.
كما تفتقر أوروبا إلى اتحاد لأسواق رأس المال واتحاد مصرفي حقيقي. ونظرًا لوجود اختلافات تنظيمية كبيرة بين بلدان الاتحاد الأوروبي، فإنَّ حمَلة الأسهم الأوروبيين ومستثمري سندات الشركات يتجنبون أي عروض خارج حدود بلدانهم، مما قد يؤدي إلى التخلي عن فرص استثمارية أكثر جاذبية. وهذا يُسلط الضوء على الحاجة إلى تحقيق هدف إنشاء اتحاد مصرفي، والذي يشمل الإشراف المصرفي المشترك، وآلية التسوية المصرفية، وضمان الودائع المشتركة.
يتعين على الحكومات الأوروبية أيضًا التغلب على شكوكها بشأن تحويل القروض إلى أوراق مالية (التوريق المصرفي)، والذي يُشكِّل عنصرًا أساسيًّا في اتحاد أسواق رأس المال. صحيح أنَّ القروض المجمعة تسبَّبت في اندلاع الأزمة المالية لعام 2008؛ ولكن ذلك فقط لأنَّ هذه القروض لم تكن خاضعة للرقابة. ومن خلال تحسين التنظيم والمراقبة، يمكن أن يُشكِّل التوريق المصرفي أداة قوية للبنوك لجذب رؤوس أموال إضافية للحصول على قروض تجارية جديدة وتمويل الاستثمارات في التكنولوجيات الخضراء.
لقد نجحت المفوضية الأوروبية في وضع استراتيجية طموحة للتحول الأخضر والرقمي لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، وذلك من خلال إرسال إشارة مهمة إلى بقية بلدان العالم. لكن غياب سوق رأس المال التنافسية يُهدد الأهداف المناخية الطموحة التي يسعى الأوروبيين إلى تحقيقها. هناك حاجة إلى تنفيذ استثمارات ضخمة في هذا العقد من أجل تحويل الطاقة والنقل، وقطاعات ضخمة من الصناعة، وملايين العقارات، فضلاً عن حماية شعوب أوروبا من الآثار المدمرة الناجمة عن تغيُّر المناخ، والتي كانت واضحة للغاية في الصيفين الماضيين.
لن يتسنّى تحقيق هذه الأهداف إلا إذا عملت الحكومات مع بنوك القطاعين العام والخاصة لإشراك المستثمرين من القطاع الخاص عبر الحدود. كما يتعين على أوروبا سد فجوة تمويل العمل المناخي التي تبلغ 350 مليار يورو (401 مليار دولار) سنويًّا على مدى السنوات العشر المقبلة على الأقل. ربما اعتدنا على قيام الحكومات والبنوك المركزية بتوفير مبالغ ضخمة من المال لدعم الاقتصاد، لكن هذا لن يدوم إلى الأبد. ولن تظلَّ أسعار الفائدة منخفضة للغاية على المدى الطويل، وسوف تصل الديون السيادية إلى حدودها، ولن تكون الضرائب المرتفعة كافية لتمويل هذا التحوُّل الذي قد يحدث مرة واحدة في كل قرن من الزمان.
ومع ذلك، يمتلك الاتحاد الأوروبي بالفعل الأداة التي يحتاج إليها لسد هذه الفجوة: إنه في حاجة فقط خلق أسواق رأس مال حقيقية واتحاد مصرفي. بوسعنا أن نرى ما يمكن تحقيقه من خلال القواعد المشتركة إذا تطلعنا إلى تحقيق التمويل المستدام. ومع إصدار أول سند أخضر، قدم بنك الاستثمار الأوروبي (EIB) قوة دفع مهمة لسوق السندات الخضراء وسندات الاستدامة. وقد أسفر ذلك عن فهم السوق الموحدة لما يُشكِّل سندًا أخضر أو مستدامًا.
علاوة على ذلك، ومع تصنيف الاتحاد الأوروبي، توجد الآن معايير شفافة لتحديد الأنشطة الاقتصادية الخضراء بالفعل أو التي من الممكن أن تتطور في هذا الاتجاه. ولدى المستثمرين مجموعة واضحة من القواعد التي يتعين استخدامها كدليل للتمويل المستدام. تُمثل هذه الشفافية على مستوى الاتحاد الأوروبي خطوة ضخمة إلى الأمام، مما يؤدي إلى تحويل فكرة كانت موضع سخرية ذات يوم إلى سوق تبلغ قيمتها تريليون يورو.
وفي ظل اتحاد حقيق لأسواق رأس المال، سوف يعمل الاتحاد الأوروبي على توسيع فرص التمويل للشركات وجذب رؤوس الأموال من مختلف أنحاء العالم، وقد يصبح اليورو منافسًا حقيقيًّا للدولار. ففي الوقت الحالي، تعتمد الشركات الأوروبية بشكل كبير على القروض، حيث تُوفر بنوك القطاع الخاص مثل البنك الألماني 80٪ من تمويل الشركات. على الرغم من أن البنوك ستقدم مساهمة حيوية في التحول الأخضر والرقمي للقطاع الخاص، إلا أنها لا تستطيع تحمل متطلبات التمويل الضخمة وحدها.
ففي حين تحصل 60٪ من الشركات الأمريكية على التمويل من سوق رأس المال، فإنَّ 20٪ فقط من الشركات الأوروبية تحذو حذوها. إذا كان بوسع المزيد من الشركات الأوروبية القيام بذلك، فسيتم توفير مبالغ ضخمة للاستثمار. لن تضطر الشركات الناشئة الأوروبية إلى البحث عن مستثمرين أمريكيين خلال مرحلة نموها. ولن تحتاج الشركات الرائدة الأوروبية، مثل شركة بيونتيك الألمانية (الذين تلقوا تمويلاً أوليًّا من بنك الاستثمار الأوروبي) إلى اللجوء لمؤشر "ناسداك" عندما تدخل احتياجاتهم التمويلية في نطاق مئات الملايين من الدولارات.
إذا كان اعتقاد مونيه بشأن الاتحاد الأوروبي صحيحًا، فستكون أزمة المناخ الخطوة التالية نحو تعميق التكامل. لن يتسنى للتحول الأخضر والرقمي الأوروبي أن ينجح إلا إذا سار جنبًا إلى جنب مع إكمال السوق المُوحدة، بما في ذلك أسواق رأس المال والاتحاد المصرفي.
كريستيان سوينغ هو الرئيس التنفيذي للبنك الألماني. ويرنر هوير هو رئيس بنك الاستثمار الأوروبي.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكت، 2021
www.project-syndicate.org