أزمات ديون الأسواق النامية.. واقع وحلول
منذ أزمة الديون التي عانت منها أمريكا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، أصبحت أزمات الديون السيادية أمراً متكرر الحدوث في الاقتصادات الناشئة والنامية. واليوم، تحتاج سريلانكا إلى خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، بعد تخلفها عن سداد ديونها الخارجية في مايو. ويواجه عدد متزايد من البلدان منخفضة الدخل، تحديات متشابهة. إذ تفيد تقديرات البنك الدولي أن نحو %60 من جميع الاقتصادات الناشئة والنامية، أصبحت مدينة بدرجة عالية من المخاطر، كما أن ما يصل إلى اثني عشر من هذه الاقتصادات، قد تتخلف عن السداد خلال الأشهر الـ 12 المقبلة.
وعلى عكس الاقتصادات المتقدمة، حيث شجعت الزيادات الحادة في الديون الحكومية، بعد ظهور (كوفيد 19، على العودة السريعة إلى اتجاه النمو، كانت الاقتصادات النامية مقيدة بنقص اللقاحات، ونقص الحيز النقدي والمالي. ونظراً لعدم قدرة هذه الاقتصادات على تمويل العجز للخروج من الاتجاه التنازلي المتزامن، الذي شهده الاقتصاد العالمي، أصبحت الآن مجبرة على أن تتعامل مع التداعيات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية، التي تقضي على احتمالات العودة على المدى القريب لمعدلات النمو، قبل انتشار جائحة (كوفيد 19).
إن معظم الاقتصادات النامية، ليست مثقلة بالديون، فيما عدا استثناءات قليلة، بما فيها سريلانكا، وزامبيا. وإجمالاً، زاد متوسط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في هذه البلدان سبع نقاط مئوية فقط (ليصل إلى 65 %)، منذ بداية الوباء، وهو أقل بكثير من الزيادة بنسبة 20 نقطة مئوية في الاقتصادات المتقدمة، حيث يشكل متوسط الدين السيادي المشترك، الآن 122 % من الناتج المحلي الإجمالي. وظل تدفق الأموال التي تتلقاها الاقتصادات النامية من أسواق السندات العالمية والبنوك منخفضاً بصورة مثيرة للقلق.
والأسوأ من ذلك، أنه في أعقاب تخفيض التصنيف الائتماني بعد الجائحة، لم تعد العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض، تستطيع الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية، وتواجه الآن قيوداً حادة على السيولة، يمكن أن تتحول إلى أزمات ملاءة. ونظراً لأن التصنيفات الائتمانية ذات الدرجة دون مستوى الاستثمار لهذه البلدان، أدت إلى زيادة تكاليف الاقتراض، فقد زاد التأثير المالي لالتزاماتها السيادية، كما أثار تراجع قدرة حكوماتها على ترحيلها عند استحقاقها، مخاوف بشأن حدوث أزمة الديون التي تعاني منها البلدان النامية.
وخططت غانا، على سبيل المثال، لإصدار سندات لإعادة تمويل ديونها المقومة بالعملة الأجنبية، في وقت سابق من هذا العام. ولكن مع موجة تخفيض التصنيفات، التي أدت إلى ارتفاع عائدات السندات الدولية، استُبعدت غانا فعلياً من الأسواق المالية الدولية، وارتفع عائد السندات السيادية لمدة عشر سنوات، إلى أكثر من 22 %. وبعد لجوء غانا إلى التعديلات الداخلية المؤلمة (الزيادات الضريبية، والتخفيضات في الإنفاق التقديري)، أثناء الوباء، أصبحت تواجه الآن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتسعى حكومتها للحصول على مساعدة من صندوق النقد الدولي.
ويقترن عاملان آخران لزيادة مخاطر أزمة السيولة في الأسواق النامية: عملة الإقراض، والتحول نحو أسعار الفائدة المتغيرة، في سياق هياكل الإقراض المتزايدة التعقيد، والاعتماد المتزايد على أسواق رأس المال الدولية. إذ بين عامي 2000 و2020، ارتفع عدد البلدان ذات الدخل المنخفض، التي لها ديون خارجية متغيرة، ارتفاعاً حاداً من 13 إلى 31. والآن، بعد أن قامت البنوك المركزية النظامية بتطبيع السياسات النقدية لمكافحة التضخم، فإن هذه البلدان سوف تتحمل تكاليف أعلى بكثير عند خدمة ديونها الخارجية.
ورغم أن الاعتماد على الديون المقومة بالعملات الأجنبية، يمكن أن يقلل من مخاطر التضخم الجامح، إلا أنه يمكن أن يزيد أيضاً من مخاطر التخلف عن السداد السيادي.
في الماضي، كانت حالات التخلف عن السداد السيادية، مدفوعة بعدم رغبة الأسواق في تجديد الديون الحالية، أو القيام بذلك بمعدلات الفائدة الباهظة فقط. وفي مختلف الاقتصادات الناشئة والنامية، أدت علاوات المخاطر المتضخمة على نحو مبالغ فيه، مدفوعة بتصورات مشوهة، إلى تضخيم الأثر المالي للديون السيادية، كما أنها كانت محركاً رئيساً لأزمات السيولة ومخاطر التخلف عن السداد.
إن الاقتصادات المتقدمة التي لها «الامتياز المسرف»، المتمثل في إصدار العملات الاحتياطية، عادة ما لا تواجه مثل هذه المخاطر. ونظراً لأن عملاتها تعتبر ملاذات آمنة، يمكنها جذب الاستثمار الأجنبي في السندات الحكومية وخزائنها، بصورة مستدامة، وترحيل ديونها باستمرار بتكاليف منخفضة، وتحمل حالات عجز دون ألم.
ويجب ألا تكون البنوك المركزية النظامية أقل اهتماماً بالهوامش التي تتسع بصورة غير متناسبة بين الاقتصادات المتقدمة والنامية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «مخاطر التجزئة العالمية». فقد أدت إجراءات تشديد شروط التمويل التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنوك المركزية الرئيسة الأخرى، إلى تفاقم تحديات إدارة الاقتصاد الكلي للاقتصادات النامية، من خلال زيادة تقلبات أسعار الصرف، وزيادة مخاطر السيولة، وتوسيع هوامش الربح.
وفي الماضي، نجحت البنوك المركزية النظامية، في توسيع نطاق بعض المزايا التي تمنحها امتيازاتها المسرفة إلى بلدان أخرى. ففي ذروة الانكماش الوبائي، على سبيل المثال، عزز بنك الاحتياطي الفيدرالي، ترتيبات تتعلق بمقايضة العملات، ووسع نطاق التغطية الجغرافية لدعمه، ليشمل عدداً قليلاً من الاقتصادات الناشئة. وقد أدت هذه الخطوة إلى ارتفاع قيمة العملة، وتحسين هوامش مقايضة الائتمان، وتراجع معدلات الفائدة طويلة الأجل في البلدان المستفيدة.
إن الجهود المتضافرة للتخفيف من مخاطر السيولة، يجب أن تكون أولوية عالمية عالية، وأهم الأسباب، هو أن عملية إعادة هيكلة الديون، لها تكاليف باهظة. إذ تفيد تقديرات البنك الدولي، أنها تؤدي إلى انخفاض نمو الإنتاج على المدى القصير. وبالنسبة للبلدان التي تفتقر إلى حماية البنوك المركزية النظامية، فإن معدلات الاقتراض المدفوعة بالتخلف عن السداد، تقوض استقرار الاقتصاد الكلي، وتقلل من المعروض من «رأس المال الصبور»، على المدى المتوسط والطويل، الذي بدونه لا يمكن للاقتصادات النامية الخضوع للتحول المطلوب، لكسر الارتباط السلبي بين النمو ودورات أسعار السلع الأساسية.
وعلى المدى الطويل، يتمثل الحل الأكثر استدامة لأزمات السيولة المتكررة، في تطوير أسواق رأس المال المحلية العميقة والفعالة والمنظمة جيداً في الاقتصادات الناشئة والنامية. وفي ظل إطار متكامل للسوق المالية، فإن أسواق إعادة الشراء المنتعشة، ستعزز العلاقة بين سوق المال والسندات، ما يتيح ظهور أسواق رأس المال السائلة. وستساعد هذه الأسواق الشديدة التكامل، في بناء منحنيات عائد مناسبة، لتحسين قرارات الاستثمار.
ويمتلك العالم بالفعل أدوات فعالة ومختبرة جيداً، لمنع تكرار أزمات السيولة، وهو شرط أساسي لبناء هذه الأسواق المتكاملة. وربما يكون إضفاء الطابع الديمقراطي على النظام المالي العالمي، لتعزيز تأثيره الإيجابي في التنمية، هو التحدي الأهم في مسارنا نحو تحقيق القدرة الدولية على تحمل الديون.
* كبير الاقتصاديين ومدير الأبحاث في بنك التصدير والاستيراد الأفريقي (أفريكسيم بانك).