الخروج البريطاني وتأثير بروكسل
بول دي جراوي
لندن ــ في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي بشأن العلاقات التجارية بعد خروج بريطانيا من الكتلة، تتخذ الحكومة البريطانية موقفاً صلباً في مطالبتها بالسيادة الكاملة. فهي تريد تحديد كل القواعد المتعلقة بالسلامة، والبيئة، والصحة، وحقوق العمال، وإعانات الدعم المقدمة للشركات البريطانية في المستقبل دون أي تدخل من المفوضية الأوروبية.
لا ضير في هذا. فالإصرار على الحق في الاختلاف عن قواعد السوق الداخلية التي يتبناها الاتحاد الأوروبي يتماشى تماماً مع معنى السيادة. المشكلة هنا هي أنَّ الحكومة البريطانية تحاول أيضاً الاحتفاظ بقدرة المملكة المتحدة على الوصول إلى هذه السوق الداخلية وفقاً لقواعدها الخاصة. على سبيل المثال، تريد الحكومة الحق في تطبيق القواعد الصحية الخاصة بها في إنتاج الدجاج (التي تسمح باستخدام الكلور) ثمَّ بيع هذا الدجاج في الاتحاد الأوروبي، حيث تنطبق قواعد مختلفة. هذا بصرف النظر عن كون الاتحاد الأوروبي هو أيضاً كياناً ذا سيادة وله الحق في تقرير وإنفاذ معاييره الخاصة وفرض تعريفات جمركية على الواردات التي تنتهك قواعده.
كيف يتسنى إنجاح اتفاق تجاري عندما يطالب الطرفان بالسيادة الكاملة؟ الواقع أنَّ هذا الزعم ينطوي على مقتضيين شاملين في مفاوضات كتلك الجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. فهو يعني أولاً أنَّ كلَّ طرف يقرر بشكل مستقل أي القوانين سيجري تطبيقها في نطاق اختصاصه. وعلى هذا، يصبح لزاماً على كل الشركات (بما في ذلك الشركات التي تتخذ من الاتحاد الأوروبي مقراً لها) التي تبيع منتجاتها في المملكة المتحدة أن تمتثل لقوانين المملكة المتحدة، وكل الشركات (بما في ذلك التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها) التي تبيع منتجاتها في الاتحاد الأوروبي أن تمتثل لقوانين الاتحاد الأوروبي.
يتمثل المقتضى الثاني في أن كل طرف يقرر بشكل مستقل كيف سيفرض سيطرته على عملية الامتثال داخل حدوده. الشركات التي لا تمتثل تعرض ذاتها للعقوبات، ولكل طرف حرية اتخاذ القرار بشأن طبيعة تلك العقوبات (حظر المبيعات، وفرض الرسوم الجمركية، وما إلى ذلك). وبالتالي فإنَّ الشركات التي تبيع سلعها في الاتحاد الأوروبي والتي لا تمتثل لقوانين الاتحاد الأوروبي ستواجه عقوباتٍ يقررها الاتحاد الأوروبي، وينطبق ذات الشيء على شركات الاتحاد الأوروبي التي تبيع سلعها في المملكة المتحدة.
من الممكن التوصل إلى اتفاق تجاري قائم على السيادة الكاملة وتنفيذه بسرعة وسهولة. ولن تنشأ الحاجة إلى لجان مشتركة مكلفة بالتفاوض بشأن التفاصيل حول كيفية السماح للقواعد والضوابط التنظيمية في كلٍّ من المنطقتين بالتباين والاختلاف، أو بشأن الإجراءات المعقدة الخاصة بتسوية المنازعات عندما تنشأ اختلافات جديدة. تميل عملية اتخاذ القرار من قِـبَـل مثل هذه اللجان إلى استغراق وقت طويل، وسوف تكون هناك دوماً قضايا ساخنة تؤدي إلى إشعال شرارة نزاع مزمن أو شبه دائم بين الشركاء التجاريين.
على النقيض من هذا، سيكون من السهل نسبياً حكم نموذج السيادة الكاملة في المستقبل، لأنَّ كل جانب سيحتفظ بسلطته في تحديد الاختلافات في القواعد وإقرارها كما يراه مناسباً. بطبيعة الحال، بمجرد إبرام مثل هذا الاتفاق، سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجنب التطورات غير المتساوقة في المستقبل، نظراً لحقيقة مفادها أنَّ السوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي هي الأكبر في العالم.
سوف يؤدي عدم التساوق على هذا النحو بشكل شبه ثابت إلى ما يعرف باسم "تأثير بروكسل". سوف تكون شركات المملكة المتحدة حريصة على الامتثال لقواعد الاتحاد الأوروبي من تلقاء ذاتها، من أجل الاستفادة من قدرتها على الوصول إلى السوق الأوروبية. وقد يُـفضي عدم القيام بذلك إلى خسائر ضخمة، سواء بسبب عقوبات عدم الامتثال أو بسبب خسارة تلك الحصة من السوق لصالح منافسين. على النقيض من ذلك، تُـعَـدُّ سوق المملكة المتحدة صغيرة نسبياً. ومن منظور شركات الاتحاد الأوروبي، ربما يؤدي التخلي عنها إلى بعض الخسائر؛ لكن هذه الخسائر ستبدو ضئيلة بالمقارنة بتلك التي قد تتكبدها شركات المملكة المتحدة إذا فقدت القدرة على الوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي.
وسوف يفرض عدم التساوق على حكومات المملكة المتحدة في المستقبل ضغوطاً كبيرة تحملها على مواءمة قوانينها مع قوانين الاتحاد الأوروبي ــ ليس فقط في الأمد القريب بل إلى أجل غير مسمى. ورغم أن حكومة المملكة المتحدة الحالية عازمة على مقاومة هذه الضغوط، فإنَّ موقفها سيضع شركات المملكة المتحدة على نحو متزايد في موقف تنافسي غير موات. فمع اضطرارها إلى الإنتاج لسوق المملكة المتحدة بموجب قواعد المملكة المتحدة، والإنتاج لسوق الاتحاد الأوروبي (الأكبر كثيراً) بموجب قواعد الاتحاد الأوروبي، سترتفع تكاليف الإنتاج التي تتحملها. وعاجلاً أو آجلاً، ستضطر حكومة المملكة المتحدة إلى الاعتراف بالواقع.
على الرغم من أنَّ المفاوضات الحالية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة كانت غالباً متوترة وشكسه وأكثر ميلاً إلى تجاوز الموعد النهائي، فلا يزال من السهل التوصل إلى اتفاق تجاري قائم على تفسير صارم للسيادة. وبمرور الوقت، سيعمل تأثير بروكسل على إجبار قوانين المملكة المتحدة على التوائم مع قوانين الاتحاد الأوروبي على أية حال. ولا حاجة إلى فرض هذه المسألة اليوم. لأنَّ سوط السوق سيتكفل بالأمر.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
بول دي جراوي أستاذ الاقتصاد السياسي الأوروبي في كلية لندن للاقتصاد.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org