إنهاء الضائقة الاقتصادية في أميركا اللاتينية

إريك بارادو

واشنطن العاصمة ــ تحتاج منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي إلى عملية إعادة ضبط شاملة وشاقة. فقد شكَّلت حالات الوفاة في المنطقة أكثر من ربع إجمالي الوفيات الناجمة عن مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، رغم أنَّ نسبة عدد سكانه تقل عن عُشر سكان العالم. وتواصل الجائحة تفشيها بلا هوادة تقريبًا في البرازيل وباراجواي وشيلي والأرجنتين، وغيرها من البلدان. الأسوأ من ذلك تضرر اقتصاد هذا الإقليم بدرجة أكبر من أي منطقة أخرى، بسبب ضخامة قطاعاته غير الرسمية، وضعف أنظمته الصحية وقيوده المالية، ليتراجع هذا الاقتصاد بنسبة 7% العام الماضي – وهو أكبر انكماش يشهده منذ عام 1821.

رغم التوقعات بحدوث انتعاش متواضع في الأشهر المقبلة، ستحتاج منطقة أميركا اللاتينية والكاريبي شهورًا عديدة حتى تتمكَّن من استعادة الأسس الاقتصادية التي فقدتها في مواجهة الجائحة. وإذا سار كلُّ شيء على ما يرام – بمعنى السيطرة على الجائحة وتحسَّن أداء الاقتصاد العالمي – فمن الممكن أن يصل نمو المنطقة إلى 5.2% هذا العام. لكن إن لم تتحسَّن الأمور، فقد يقل معدل النمو عن 1% مع ركود محتمل في 2022. وسيتطلب تحاشي ذلك السيناريو إصلاحات مالية عامة جريئة وعاجلة.

لكن المشكلات الاقتصادية في أميركا اللاتينية تسبق وقوع الجائحة بزمن طويل. فمن بين الظروف الأخرى القائمة سلفًا تخلُّف إنتاجية الإقليم لعقود طويلة عن الاقتصادات الأكثر نجاحًا، وقد ساقته الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 إلى مفترق طرق. ففي ذلك الوقت، كان لدى الاقتصادات الكبرى في المنطقة الحيز المالي الذي يمكنها من تجاوز الأزمة المالية وسنّ إصلاحات تضمن لها نموا طويل الأجل. لكن نُحِّي الإصلاح جانبًا حينما قفزت أسعار السلع. عندها انتُشل الملايين من الفقر، وزادت الحكومات إنفاقها على الأجور والدعم والإعانات، وهو أمر يصعب نقضه، بخلاف استثمارات رؤوس الأموال في البنية التحتية.

لا يجوز لحكومات المنطقة أن تكرر أخطاءها. فالأوضاع القائمة اليوم من انتشار أسواق الائتمان المفتوح، وتدني أسعار الفائدة، وارتفاع أسعار السلع، وتنامي تدفقات التحويلات ليست مبررًا لإرجاء تغييرات ضرورية. فقد أسهب الاقتصاديون لسنوات عدة في الحديث عن الحاجة إلى إصلاحات لجذب الأعمال والاستثمارات، ولجعل أسواق العمل أكثر مرونة. ولا تزال هناك حاجة ماسة لمثل تلك الأمور.

إنني أتفهم - كوني واضع سياسات سابقًا - مدى صعوبة إنفاق رأس المال السياسي الضئيل على مصالح خاصة. فقد تقوم المؤسَّسات المالية الدولية بدور الشريك النافع في تقديم الدعم الاقتصادي والسياسي للإصلاحات، لكن النجاح يعتمد في النهاية على تحديد أولويات القضايا بشكل صحيح. وفي حالة أميركا اللاتينية، تعدُّ السياسة المالية القضية الأهم، إذ ينبغي للقادة السياسيين أن ينظروا نظرة جادة ومتعمقة في كيفية فرضهم للضرائب على مواطنيهم وكيفية دعمهم.

لا شكَّ أنَّ الإدارة المالية مسألة خادعة، خاصة عند ارتفاع مستويات الدين ونشوء حاجة ماسة لتحفيز نمو عريض القاعدة يتجاوز الاقتصاد الرقمي المزدهر بالفعل. وكما تقدم البنوك المركزية إرشادات استشرافية بشأن السياسات النقدية، تحتاج اقتصادات أميركا اللاتينية لإرشادات استشرافية تتعلق بالسياسات المالية واستراتيجية واضحة للخروج من الجائحة.

أقولها ببساطة، تنفق المنطقة بشكل عام الأموال العامة بشكل يفتقر إلى الكفاءة الاقتصادية، كما تفرض ضرائب قليلة للغاية أو تفرضها بطرق غير فعّالة، إذ لا يتجاوز إجمالي الإيرادات الضريبية في أميركا اللاتينية والكاريبي 23% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط، وهو ما يقل كثيرًا عن المتوسط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 34% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن بينما تبلغ معدلات جمع الضرائب في البرازيل وباربادوس 33% من الناتج المحلي الإجمالي، تهبط النسبة إلى أدنى مستوياتها في جمهورية الدومينيكان وجواتيمالا لتصل إلى 13.5% و13.1% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي. وبالتالي، فإنَّ الإصلاحات التي تحتاج إليها البرازيل تختلف عن تلك التي تحتاج إليها جواتيمالا.

يمثل وجود اقتصاد غير رسمي ضخم أحد أسباب تدني الإيرادات الضريبية عبر دول المنطقة. لذا يمكن اللجوء إلى الحوافز الضريبية للحد من الطابع غير الرسمي للأنشطة الاقتصادية، لا سيما عند اقتران ذلك بإنفاذٍ وتطبيقٍ أكثر صرامة. فضلًا عن ذلك، ينبغي فرض ضرائب أكثر فاعلية على الدخول، وانبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي (بما في ذلك الوقود)، والخدمات الرقمية، والثروة (بطرق تشمل مثلًا رفع الضرائب العقارية).

أمّا عن جانب الإنفاق، فإنَّ أميركا اللاتينية قادرة على توفير حتى 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًّا بمواءمة إنفاقها بشكل أكبر مع أفضل الممارسات الدولية. فبالإضافة إلى استخدام عقود شراء البِنى التحتية العامة والسعي لزيادة الشفافية بشأن الميزانية، يعني هذا أيضًا دعم مكاتب الميزانية التشريعية، وإنشاء كيانات لمراقبة جودة الإنفاق الحكومي. وقد يفيد هنا أيضًا وضع قواعد مالية. فمن خلال ضمان حماية الاستثمارات العامة خلال فترات الانكماش مثلًا، تستطيع الحكومات بدء التحرُّك إلى ما وراء دوائر الإنفاق السياسي قصيرة الأجل.

ما المردود إذًا؟ إن استطاعت المنطقة تقوية مؤسساتها المالية والتغلب على التصميم الأنظمة الضريبية السيء وتفشي التهرب من الضرائب، وتطويع الاستهلاك المالي بما يتماشى مع الاقتصادات المتقدمة، فقد تزيد الإيرادات الضريبية بمقدار 7% من الناتج المحلي الإجمالي. كما أنَّ بوسع الدول إيجاد حيز الإنفاق الذي تتطلبه الضرورة الملحة لتخفيف حدة الفقر والحد من عدم المساواة. وتتوافر في الاستثمارات العامة المختارة بعناية في البنية التحتية ما يطلق عليه الاقتصاديون وصف الآثار المضاعفة العالية، بمعني أن َّكلَّ دولار مستَثمر يُدرُّ دولارين في النمو الإضافي مستقبلًا.

لا شكَّ أنَّ تحسين قدرة الحكومات على تنفيذ ميزانياتها عمل غير جذّاب أو محبّب. فلا فرص هنا لالتقاط صور قص الأشرطة والتباهي أمام الكاميرات. لكن إصلاحات قليلة من شأنها تحقيق المزيد لوضع دول أميركا اللاتينية والكاريبي على طريق يقودها لأداء اقتصادي أفضل واستثمارات أعلى – وهما ما يشكلان عنصرًا رئيسًا في تقوية سلاسل الإمداد بالإقليم بعد الجائحة.

رغم صعوبة تلك الإصلاحات، فهي ممكنة. فقد حسَّنت جامايكا أداءها المالي بشكل لافت للنظر منذ أن ضربتها أزمة ديون قبل عقد تقريبًا، وهناك دول عدة تفكر جديًّا في الإصلاحات. وسوف تُترجَم تلك المساعي في المستقبل غير البعيد إلى مستوى أقل من الفقر وعدم المساواة، وقدرٍ أكبر من الاستقرار السياسي. خلاصة القول، ينبغي لقادة دول أميركا اللاتينية والكاريبي على اختلاف أطيافهم الإيديولوجية تبنّي الثورة المالية.

ترجمة: أيمن أحمد السملاوي    Translated by: Ayman A. Al-Semellawi

إريك بارادو كبير الاقتصاديين في بنك التنمية للبلدان الأميركية.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021
www.project-syndicate.org