خوض آخر حروب التضخُّم
جيفري فرانكل
كمبريدج ــ في عام 1955، أطلق رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في ذلك الوقت ماكنزي مارتن مقولته الشهيرة: "إنَّ وظيفة المجلس هي انتزاع وعاء شراب البَنش بمجرد أن تسخن أجواء الحفلة، بدلًا من الانتظار حتى يثمل المحتفلون ويصخبون". وبعد عقود، وفي أعقاب التضخُّم الذي شهدته فترة السبعينيات من القرن الماضي، أصبحت تلك المقولة عقيدة راسخة بين واضعي السياسات النقدية لدرجة أنهم صاروا لا ينتظرون حتى يكشف التضخُّم المرتفع عن وجهه لكبح جماح أيِّ اقتصاد محموم. واليوم، ومع ارتفاع التضخُّم، نجدهم يُظهرون تقديرًا متجددًا لاستعارة تشبيه وعاء شراب البنش.
خلال العقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، قاد التمسُّك بهذا العرف القديم بعض البنوك المركزية لتبنّي سياسات نقدية متشددة غير ضرورية بصورة أثارت جدالًا. وبالنظر إلى الأمر في وقت لاحق، نجد أنهم بالغوا أحيانًا في تقدير خطر التضخُّم.
في عام 2021، خاض مسؤولو البنوك المركزية مجددًا "الحرب الأخيرة"، لكن بالتقليل هذه المرة من تقديراتهم لخطر التضخُّم مع بدء اصطدام التعافي الاقتصادي بقيود على القدرات الإنتاجية. وبنهاية عام 2021، كان معدل البطالة في الولايات المتحدة هبط إلى ما دون 4%، بينما سجَّل التضخُّم، بوصول معدله إلى 7%، أعلى مستوى له في 40 عامًا. وصار لزامًا الآن على مجلس الاحتياطي الفدرالي- بعد أن تبنّى سابقًا وجهة نظر متفائلة بأنَّ أيَّ تضخُّم سيكون عابرًا- أن يتدارك ما فاته.
دللت تجربة السنوات العشر من 2008 إلى 2018 على قدرة السياسة النقدية التوسعية على رفع النمو، ودفع معدل البطالة في الولايات المتحدة في نهاية الأمر إلى ما دون 4%، مع بعض التأثيرات القليلة المعاكسة على استقرار الأسعار وأسعار الفائدة. لم يتطلَّب هذا الاستنتاج أي نوع من إعادة التفكير بشكل جوهري في نظرية الاقتصاد الكلي، بل لقد تولّد بشكل طبيعي من الافتراض بأنَّ الاقتصاد في ذلك الوقت كان يعمل في الجزء المنخفض المستوي من "منحنى تفضيل السيولة-عرض النقود (منحنى إل إم)"، وفي الجزء المنخفض المستوي من منحنى فيليبس (مما يؤكِّد بطريقة أخرى وجود مقايضة بين البطالة والتضخُّم).
لك أن تنظر في الأمثلة الرئيسة لتدابير اتُخذت خلال فترة الأعوام العشرة، حينما بالغ واضعو السياسات والمحللون في تقدير خطر تسبّب التيسير النقدي في إشعال التضخُّم.
فقد رفع البنك المركزي الأوروبي بالفعل سعر الفائدة الرسمي في يوليو/تموز عام 2008. ورغم تداركه هذا الخطأ في وقت وجيز، عاد ورفع أسعار الفائدة مجددًا في الفترة من إبريل/نيسان حتى يوليو/تموز من عام 2011. وفعل بنك السويد المركزي الشيء ذاته برفع أسعار الفائدة في عام 2008 (حتى سبتمبر/أيلول)، ليكرّر الأمر بصورة أفظع عامي 2010-2011.
بل كان هناك مثال لخطأ أوضح وقع في عام 2010 تمثَّل في خطاب شهير إلى رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي وقتها بن برنانكي أرسلته مجموعة من 24 اقتصاديًّا وأستاذًا جامعيًّا ومدير صندوق يعارضون فيه عمليات شراء الأصول الشهرية، المعروفة بالتيسير الكمّي، التي كانت تجري في ذلك الوقت، ويحذرون من أنَّ التيسير الكمّي لن يرفع معدل التوظيف، بل على الأحرى "يهدِّد بخفض قيمة العملة وحدوث تضخُّم". وكما كان ينبغي أن يبدو واضحًا في وقت ما زالت البطالة خلاله فوق مستوى 9%، لم يكن هناك في الحقيقة سبب للخوف من أن تفضي برامج التحفيز النقدي إلى تضخُّم مفرط. أمَّا إجماع الاقتصاديين فلقد رأى أنَّ سياسة التيسير الكمّي التي اتبعها الاحتياطي الفدرالي في الاستجابة للركود الذي وقع في الفترة من 2007 إلى 2009 كانت مبررة تمامًا.
المثال الأخير، وربما الأكثر إثارة للدهشة من منظور الاقتصاديين، كان ما حدث في الفترة من 2016 إلى 2018، عندما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الأميركي فوق الاحتمالات المقدرة وهبطت البطالة إلى ما دون 4%. في الماضي، كان هذا المزيج يؤشِّر باقتصاد محموم، لذا كان من المفهوم أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة من عام 2016 وحتى نهاية 2018. لكن في النهاية تحقَّق جزء صغير للغاية من التضخُّم الذي كان مصدر تخوُّف، ليدل هذا في وقت لاحق على أنه كان من الممكن ترك الاقتصاد "يحمو" لفترة أطول. ويبدو هنا أنَّ منحنى فيليبس كان متمددًا منبطحًا، إن لم يكن ميتًا.
والآن عاد التضخُّم ليرتفع مجددًا، وقد تكشف لنا أنه عندما يزيد الطلب بوتيرة أسرع من العرض، تكون النتيجة التضخُّم، تمامًا كما تقول الكتب. لكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بدافع من رغبته في عدم تكرار الخطأ الذي ارتكبه في عام 2018، لم يقدر مخاطر التضخُّم في عام 2021 حقَّ قدرها.
في عام 2020، تسبَّبت جائحة كورونا 2019 (كوفيد-19) في ركود حاد، قبل أن تقود برامج التحفيز النقدي والمالي الضخمة التي طبَّقتها الولايات المتحدة إلى التعافي السريع اللاحق. وقد ظلَّ التضخُّم غائبًا؛ لأنَّ صدمة الطلب السلبية الناشئة عن الجائحة، كما قد تخبرنا الكتب في استنتاجاتها، لا بد أنها كانت أكبر من صدمة العرض السلبية في البداية، قبل تفعيل برامج التحفيز.
لكن الأمر لا يخلو من تفسير آخر أقل تقليدية يجافي النظرة العامة. عندما يقع ظرف طارئ أو تحلُّ كارثة، فتسبَّب تهافتًا على نوع من البضائع وليكن ورق التواليت مثلاً، يرى الاقتصاديون فقط أنَّ أفضل طريقة للتعامل مع الأمر رفع الأسعار قبل أن يختفي المخزون التجاري من البضاعة، بينما ينظر المستهلكون وتجّار التجزئة وشركات تصنيع ورق التواليت إلى ذلك بصورة أعمق، فيرونه "تلاعبًا بالأسعار" ومن ثمَّ يعبرون عن رفضهم الأخلاقي لرفع السعر، لذا تظلُّ الأسعار دون تغيير. لكن عندما تنفرج ظروف الأزمة لاحقًا، قد يرفع المصنّعون وتجّار التجزئة أسعارهم دون أن يجلبوا لأنفسهم الاحتقار الذي كان لينالهم لو فعلوا ذلك في أوقات الأزمة، خاصة عند ارتفاع التكلفة. فرغم النقص المعروف للجميع في ورق التواليت في عام 2020، لم يرتفع سعره حتى 2021.
إذا ثبت صدق هذه الفرضية بأيِّ قدر، فربما شكَّلت بعض محاولات "التعويض" من جانب الشركات جزءًا من أسباب التضخُّم الأخير في الولايات المتحدة البالغ 7%. في تلك الحالة، قد تنكسر حدة التضخُّم خلال العام القادم.
على أية حال، ينبغي للاحتياطي الفيدرالي أن يرفع إناء البنش الآن، إذ لا يمثل ارتفاع التضخُّم الدليل الوحيد على فرط نشاط الاقتصاد الأميركي؛ فالناتج المحلي الإجمالي ينمو بوتيرة سريعة وسوق العمل صار ضيقًا مُحكَمًا.
لقد أنهى الاحتياطي الفيدرالي تقريبًا العمل بسياسة التيسير الكمي، التي أفضت إلى توسيع ميزانيته العمومية بصورة ضخمة. لكن إزاحة وعاء البنش تعني أيضًا رفع أسعار الفائدة، حيث يُتوقَّع أن يشرع المجلس في رفعها في مارس/آذار، وأن يبدأ في التخلُّص من الأصول غير التقليدية، لا سيما السندات المدعومة بالرهن العقاري، التي كدسها الاحتياطي الفيدرالي على ميزانيته العمومية. وقد شرع بنك إنجلترا بالفعل في بيع بعض السندات التي يمتلكها، بما في ذلك ديون الشركات.
في الوقت ذاته، ربما لا يزال البنك المركزي الأوروبي منخرطًا في الحرب الأخيرة. فعلى العكس من الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا، لم يشرع المركزي الأوروبي بعد في تقليص نطاق سياسته للتيسير الكمي، ناهيك عن رفع أسعار الفائدة، التي لا تزال سالب 0.5%. وربما يحاول تفادي تكرار أخطائه في الفترة بين عامي 2008 و2011، عندما أخفق في استدامة برنامج التحفيز في أعقاب الأزمة المالية العالمية. (لكن لا ننكر أنَّ النموَّ في أوروبا لم يكن على ذات القدر من القوة الذي كان عليه في الولايات المتحدة).
ينبع النزوع لخوض الحرب الأخيرة من الطبيعة البشرية. وقد كانت الأحداث الأخيرة الأكثر أهمية وتأثيرًا في تشكيل إدراك الناس للكيفية التي يعمل بها العالم. بوسع مسؤولي البنوك المركزية تبرير التركيز بصورة أكبر على تلك التطورات بالإشارة إلى التغيرات السريعة والجوهرية في التكنولوجيا والمجتمع، لكن، كما يدرك هؤلاء المسؤولون الآن، تزودنا النظرة التاريخية الأبعد أمدًا بالحكمة المستمدة من مجموعة أكثر تنوعًا من الأحوال والظروف.
ترجمة: أيمن أحمد السملاوي Translated by: Ayman A. Al Semellawi
جيفري فرانكل أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت،2022.
www.project-syndicate.org