مِن الاستثنائية الأميركية إلى الاستثنائية الأوروبية
ستيفن س. روتش
نيوهافين ــ هذه كلمات من الصعب أن يتقبلها أيُّ متشدد من المتشككين في أوروبا. كنت لفترة طويلة، مثلي في ذلك كمثل كثيرين، أُعرِب عن انتقادي للاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي على أنه منطقة عملة مختلة وظيفياً. وعلى الرغم من الالتزام السياسي القوي بالوحدة الأوروبية باعتبارها العلاج لقرن من الحروب المدمرة وإراقة الدماء، كانت ركيزة بالغة الأهمية من ركائز الاتحاد الاقتصادي والنقدي مفقودة دوماً: الاتحاد المالي.
الآن لم تعد هذه هي الحال. فبعد التوصُّل إلى اتفاق تاريخي في الحادي والعشرين من يوليو/تموز بشأن إنشاء صندوق تعافي الاتحاد الأوروبي بقيمة 750 مليار يورو (868 مليار دولار أميركي)، والذي أطلق عليه وصف "الجيل التالي من الاتحاد الأوروبي"، تغير الوضع ــ وسوف يخلف هذا عواقب عميقة ودائمة على كل من الدولار المبالغ في تقييمه واليورو المقدر بأقل من قيمته الحقيقية.
على النقيض من الولايات المتحدة، التي يبدو الأمر وكأنها تهدر الفرص التي تتيحها أزمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الملحمية، ارتفعت أوروبا إلى مستوى المناسبة ــ وليس للمرة الأولى. ففي يوليو/تموز من عام 2012، في خضم أزمة ديون سيادية مشؤومة، تعهد رئيس البنك المركزي الأوروبي آنذاك ماريو دراجي بالقيام "بكل ما يلزم" للدفاع عن اليورو المحاصر. وفي حين ساعد هذا التعهد في تعزيز مصداقية البنك المركزي الأوروبي بصفته حارساً لا يتزعزع للعملة الموحدة، فإنه لم يفعل أي شيء في التصدي للضرورة الأعظم: الاحتياج إلى المقايضة بين السيادة الوطنية وآلية التحويل المالي لعموم أوروبا.
يصحح اتفاق الحادي والعشرين من يوليو/تموز هذا النقص على وجه التحديد. فالآن أصبح الاتحاد الاقتصادي والنقدي يستند أخيراً إلى ركائزه الثلاث الكاملة: العملة المشتركة، وبنك مركزي واحد، والتزام جدير بالثقة بسياسة مالية موحدة.
هذا الاتفاق بعيد عن الكمال بطبيعة الحال. فهو يتطلب الموافقة بالإجماع من جانب البلدان الأعضاء السبعة والعشرين في الاتحاد الأوروبي ــ وهو أمر مؤلم دوماً في البيئة السياسية المشحونة المستقطبة اليوم. ولم يخل الأمر من صراع حول تكوين صندوق الاتحاد الأوروبي، الذي سيشمل 390 مليار يورو في هيئة منح الإغاثة من كوفيد-19 لمرة واحدة و360 مليار يورو في هيئة قروض أطول أجلاً. ورغم أنَّ الشيطان قد يكمن في التفاصيل، فإنَّ الخلاصة واضحة: فسوف تحظى خطة الجيل التالي من الاتحاد الأوروبي بدعم حاسم من الإصدار الواسع النطاق للسندات السيادية الأوروبية. وهذا يضع أوروبا أخيراً على الخريطة باعتبارها داعماً لأصل جديد خالٍ من المخاطر في عالم لم يعرف حتى الآن سوى أصل واحد من هذا القبيل: سندات الخزانة الأميركية.
الواقع أنَّ هذا الاختراق المالي في أوروبا يدق إسفيناً خطيراً بين الدولار الأميركي واليورو المقدر بأقل من قيمته الحقيقية. ويبدو أنَّ التداول الأخير في أسواق العملات الأجنبية يتماشى مع هذا التطور. لكن الطريق لا يزال طويلاً. فعلى الرغم من الارتفاع الكبير في يونيو/حزيران وأوائل يوليو/تموز، يظل مؤشر اليورو الواسع أقل بنحو 14% من أعلى مستوى بلغه في أكتوبر/تشرين الأول 2009 بالقيمة الحقيقية، في حين أنَّ الدولار، على الرغم من ضعفه في الأسابيع الأخيرة، يظل أعلى بنحو 29% عن المستوى المتدني الذي بلغه في يوليو/تموز 2011. وقد بنيت توقعي بهبوط مؤشر الدولار الواسع بنحو 35% على اعتقاد مفاده أنَّ هذا مجرد بداية لعملية إعادة التنظيم التي طال انتظارها بين العملتين الرئيستين في العالم.
أدرك تمام الإدراك أنَّ القرارات بشأن العملة كانت لفترة طويلة من أصعب التوقعات الكلية على الإطلاق. في مناسبة شهيرة، ذَكَـر رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان جرينسبان أنَّ مثل هذه القرارات أشبه بممارسة قذف العملة المعدنية في الهواء وانتظارها على أي وجه تقع. ومع ذلك، قد يكون من المفيد أن نجرِّب حظنا في بعض الأحيان.
تعكس وجهة نظري بشأن تهيؤ الدولار المبالغ في قيمته لانخفاض حاد اتجاهين تحليليين: اختلال توازن الاقتصاد الكلي الذي يزداد سوءاً بسرعة في أميركا، والحكومة التي تتخلى عن كل مظاهر القيادة العالمية. والحق أنَّ التقدم المفاجئ في أوروبا في الحادي والعشرين من يوليو/تموز، وما يعنيه بالنسبة إلى اليورو، يزيد من اقتناعي عمقاً.
فيما يتعلق بالاختلالات الكلية، يبدو أنَّ التراجع الحاد الذي طرأ على المدخرات المحلية في الولايات المتحدة والذي دعم حجتي الأصلية يجري الآن على قدم وساق. إذ يبدو أنَّ الارتفاع الأولي المرتبط بالجائحة في المدخرات الشخصية بدأ يتراجع الآن، مع انخفاض معدل الادخار الشخصي من 32% في إبريل/نيسان إلى 23% في مايو/أيار، في حين يشهد عجز الموازنة الفيدرالية انفجاراً كبيراً، حيث ارتفع إلى 863 مليار دولار في يونيو/حزيران وحده ــ وهو ما يعادل تقريباً العجز الذي بلغ 984 مليار دولار لعام 2019 بالكامل. وبالطبع، أصبح الكونجرس الأميركي على بُـعد أيام فقط من استنان مشروع قانون آخر للإغاثة من كوفيد-19 بقيمة عدة تريليونات من الدولارات. وهذا من شأنه أن يفرض ضغوطاً هائلة على الادخار المحلي الكاسد بالفعل ــ كان صافي معدل الادخار الوطني 1.5% فقط من الدخل الوطني في الربع الأول من عام 2020 الذي سبق الجائحة إلى حد كبير ــ وأن يضع الحساب الجاري على مسار نحو تحقيق مستوى غير مسبوق من العجز.
الواقع أنَّ المقارنة مع أوروبا مقنعه بشكل خاص من هذا المنظور. ففي حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل عجز الحساب الجاري الأميركي إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، من المتوقع أن يحقق الاتحاد الأوروبي فائضاً في الحساب الجاري بنحو 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي ــ وهو فارق قدره 5.3 نقاط مئوية. ومع دخول الولايات المتحدة أزمة كوفيد-19 بوسادة ادخار أرق كثيراً وتحركها بقوة أكبر على الجبهة المالية، فسوف تستمر فوارق صافي الادخار والحساب الجاري في التحول لصالح أوروبا ــ مما يفرض ضغوطاً كبيرة تدفع الدولار نحو الهبوط.
يصدق ذات الأمر من منظور القيادة العالمية، وخاصة مع استمرار أميركا في التراجع عن العولمة، والانفصال، وفرض تدابير الحماية التجارية. علاوة على ذلك، انبهرت بشكل خاص بجهود أوروبا الأخيرة لمعالجة تغير المناخ ــ ليس فقط تأطير الجيل التالي من الاتحاد الأوروبي بحيث يكون متوافقاً مع اتفاق باريس للمناخ، بل وأيضاً تخصيص ما يقرب من ثلث حزمة ميزانيته الأوسع للبنية الخضراء وما يرتبط بها من مبادرات الإنفاق. من المؤسف أنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلك الاتجاه المعاكس تماماً، فاستمرَّ في تفكيك أغلب الضوابط التنظيمية البيئية التي وضعتها إدارة الرئيس باراك أوباما، ناهيك عن الانسحاب من اتفاق باريس في أوائل 2017.
والتباين الواضح في جهود احتواء كوفيد-19 لافت للنظر بذات القدر. فقد ارتفعت حالات الإصابة الجديدة في الولايات المتحدة إلى عنان السماء لتبلغ مستوى يومي غير مسبوق بنحو 67 ألف حالة في الأسبوع المنتهي في الحادي والعشرين من يوليو/تموز ــ وهو ارتفاع مذهل بنحو 208% عن منتصف يونيو/حزيران. في بلدان الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، ظلَّ العدد اليومي لحالات العدوى المؤكدة الجديدة مستقراً تقريباً منذ منتصف مايو/أيار، بما يزيد قليلاً على 5000 حالة. ولأنَّ عدد سكان الاتحاد الأوروبي أكبر بنحو 35%، فإنَّ فشل الولايات المتحدة الذريع في احتواء فيروس كورونا يصبح أشد وضوحاً على أساس نصيب الفرد. علاوة على ذلك، يتباطأ توسع اختبار فيروس كورونا في الولايات المتحدة في حين ينفجر معدل الإصابة بالعدوى، مما يقوض المبرر الفارغ الذي تسوقه إدارة ترامب بأنَّ المزيد من الاختبارات يدفع معدلات العدوى إلى الارتفاع. مع التزام أوروبا الأعمق بسياسة الصحة العامة وتدابير فرضها، فأي من الجانبين قد تفضل امتلاك عملته؟
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس في جامعة يال، ومؤلف كتاب "علاقة غير متوازنة: الاتكالية المتبادلة بين أميركا والصين".
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org