استَـعِـدوا لحروب الـعُـملة العكسية
جيفري فرانكل
كمبريدج ــ على مدار العام الماضي، ارتفعت قيمة الدولار الأميركي مقابل اليورو بنسبة 12%، وعند مستوى 0.93 من اليورو، يقترب من سِـعر التكافؤ. إذا بدت أسعار النفط والسلع الأساسية الأخرى المقومة بالدولار مرتفعة الآن، فإنها تبدو أكثر ارتفاعًا باليورو. مع ارتفاع قيمة العملة الأميركية، وارتفاع معدلات التضخُّم في العديد من البلدان إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود من الزمن، فربما ندخل الآن ما يسمّى "حروب العملة العكسية" ــ حيث تتنافس البلدان لتعزيز قيمة عملاتها أمام العملات الأجنبية.
في الأصل، كان مصطلح "حروب العملة" وصفًا مزخرفًا لما أسماه خبراء الاقتصاد الدولي لفترة طويلة "خفض القيمة التنافسي" (competitive devaluations) أو بعد أن بدأ تعويم أسعار الصرف في أوائل سبعينيات القرن العشرين، "إنقاص القيمة التنافسي" (competitive depreciations). في هذه المواقف، تشعر البلدان بالظلم لأنَّ شركاءها التجاريين يتعمدون ملاحقة سياسات تهدف إلى إضعاف عملاتها من أجل اكتساب ميزة غير عادلة في التجارة الدولية. قد ينشأ خفض القيمة التنافسي عندما تتضمن أهداف الاقتصاد الكلي الرئيسة في كل البلدان، إضافة إلى تعظيم نمو الناتج المحلي الإجمالي وتشغيل العمالة، تحسين موازينها التجارية. وهذا يصف بشكل عام العقود القليلة الأخيرة في الاقتصاد العالمي.
من ناحية أخرى، تنطوي حروب العملة العكسية على رفع قيمة العملة التنافسي. هنا، تتصور البلدان أنَّ شركاءها التجاريين يحاولون عمدا تعزيز قوة عملاتهم من أجل كبح جماح التضخُّم. وهذا من الممكن أن يصف الفترة التي بدأت في عام 2021، عندما عاد التضخُّم ليفرض مشكلة عصيبة في أغلب البلدان.
في كل من الحالتين، من المستحيل أن تلاحق كل البلدان مثل هذه الاستراتيجيات، لأنها من غير الممكن أن تحرِّك أسعار الصرف في ذات الاتجاه في وقت واحد. يُـنـظَـر إلى خفض القيمة التنافسي أو رفع القيمة التنافسي غالبًا على أنه دليل على الافتقار إلى التعاون الدولي لتحقيق استقرار أسعار الصرف، والذي يتسبَّب في بعض الأحيان في إطلاق الدعوات المنادية بترتيب جديد على غرار مؤتمر بريتون وودز لتعزيز قدر أكبر من تنسيق السياسات.
كانت الولايات المتحدة تسارع عادة إلى الادعاء بأنَّ عملات الدول الأخرى مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية بشكل غير عادل. منذ عام 1988، كان الكونجرس يطالب وزارة الخزانة بتقديم تقارير نصف سنوية حول ما إذا كان شركاء أميركا التجاريون الرئيسون يتلاعبون بعملاتهم. وتُـعَـدُّ الصين وغيرها من الدول الآسيوية الأهداف الأكثر شيوعًا. لكن سويسرا أيضًا كانت دائمًا موضع شك، حتى برغم أنَّ الفرنك السويسري يمكن اعتباره بسهولة أغلى عملة رئيسة وفقا لمعايير أخرى.
في فبراير/شباط من عام 2013، تولَّت وزارة الخزانة الأميركية قيادة شكل مصغر من اتفاق بريتون وودز والذي بموجبه تمتنع دول مجموعة السبع عن اتخاذ أي خطوات لخفض قيمة عملاتها. الواقع أنَّ اتفاق 2013 غير معروف لكثيرين، لكنه نجح. فعلى مدار العقد الأخير، لم تتدخل الدول الأعضاء في مجموعة السبع لبيع عملاتها في سوق الصرف الأجنبي.
أمّا الصين، وهي ليست عضوًا في مجموعة السبع، فتتدخل في سوق العملات. لكنها منذ عام 2014 كانت تفعل ذلك بغرض إبطاء انخفاض قيمة الرنمينبي، وليس تشجيعه.
صيغت عبارة "حرب العملات" في عام 2010 من قِـبَـل قادة برازيليين احتجاجًا على السياسات النقدية التي تنتهجها الولايات المتحدة، واليابان، ودول أخرى. لم يتهموا بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أو بنك اليابان بخفض قيمة الدولار أو الين صراحة، أو التدخل في سوق الصرف الأجنبي لدفع قيمة هاتين العملتين إلى الانخفاض، بل اتهموهما بتبني سياسات نقدية مفرطة في التساهل. زعم صنّاع السياسات البرازيليون أنَّ نظراءهم الأميركيين واليابانيين خفضوا أسعار الفائدة إلى الصِـفر، ثمَّ زادوا الأمر سوءًا على سوء بتقديم التيسير الكمي، متعمدين خفض قيمة الدولار والين، وبذلك تعزيز صافي الصادرات، وتصدير البطالة إلى شركائهم التجاريين.
على نحو مماثل، لا أحد اليوم يتهم السلطات الأميركية باستخدام التدُّخل في الصرف الأجنبي لرفع قيمة الدولار. بل تدور الشكوى حول تسبُّب زيادات أسعار الفائدة الحالية من قِـبَـل الاحتياطي الفيدرالي في اجتذاب تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة وتعزيز قوة العملة الأميركية، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة دوليًّا وبالتالي الإبقاء على النمو العالمي دون المستوى الذي من الممكن أن يكون عليه.
لا يخلو الأمر من سوابق تاريخية للمخاوف من خفض القيمة التنافسي، وكان أبرزها في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما خفضت القوى الكبرى عملاتها مقابل الذهب وبالتالي مقابل بعضها بعضًا. ولكن هل توجد أيضًا سابقة لرفع القيمة التنافسي؟
زعم بعض المراقبين أنَّ أوائل الثمانينيات قدَّمت مثل تلك السابقة. فعندما قرَّر الاحتياطي الفيدرالي بقيادة بول فولكر رفع أسعار الفائدة بشكل حاد لمكافحة التضخُّم، كان يعلم أنَّ ارتفاع قيمة الدولار سيعينه على هذه المهمة. لكن الانخفاض المقابل في قيمة عملات شركاء الولايات المتحدة التجاريين أدّى إلى تفاقم معدلات التضخُّم لديهم وأجبرهم على رفع أسعار الفائدة أيضًا.
الضحايا الأكثر ترجيحًا لارتفاع قيمة اليورو اليوم ليسوا البلدان الغنية الكبرى الأخرى، بل الاقتصادات الناشئة والنامية. فكثير منها لديها ديون كبيرة مقومة بالدولار، والتي تفاقمت بسبب الإنفاق المالي المطلوب لمكافحة جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). عندما ترتفع قيمة الدولار، تزداد تكاليف خدمة الدين بالعملات المحلية. ومن الممكن أن يؤدي اقتران أسعار الفائدة العالمية المتزايدة الارتفاع بالدولار الأقوى إلى اندلاع أزمات الديون، كما حدث في المكسيك في عام 1982 ثمَّ في عام 1994.
لكن ليست كل المخاوف من رفع قيمة العملات التنافسي مبررة أو تستحق إصلاح نظام العملة الدولي. على عكس معظم البنوك المركزية، أبقى بنك اليابان على سياسة نقدية شديدة اللين طوال العام الماضي، في استمرار لحملته الطويلة الأمد لزيادة النمو ومعدل التضخم. وعلى هذا فبينما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في محاولة لإبطاء ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة، لا تزال أسعار الفائدة اليابانية عند مستوى الـصِّـفر أو أقل. وكما توقعنا، تسبب فارق أسعار الفائدة المتزايد الاتساع في انخفاض قيمة الين بنحو 15% مقابل الدولار خلال العام الفائت.
في مجمل الأمر، لا يمثل هذا التغير الكبير في سعر صرف الدولار مقابل الين مشكلة حقيقية. فقد دفع الأسعار في اليابان إلى الارتفاع في حين فرض ضغوطًا دفعت التضخُّم في الولايات المتحدة إلى الانخفاض. هذا هو ما كان كل من البلدين يسعى إلى تحقيقه. تسمح العملات المعومة لكل بلد بملاحقة السياسة النقدية التي تناسب ظروفه الخاصة.
ولكن مع احتمال استمرار التضخُّم العالمي المرتفع لبعض الوقت، ترتفع احتمالات نشوب حروب عملة عكسية. وبدلًا من السباق إلى القاع في سوق الصرف الأجنبي، ربما نشهد تدافعا نحو القمة ــ ومن المرجَّح أن تكون الدول الأكثر فقرًا هي الأشد معاناة في هذه العملية.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
جيفري فرانكل أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org