العولمة بحاجة إلى إعادة بناء وليس مجرد إصلاح
جان بيساني فيري
باريس ــ من الممكن أن يؤدي فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بولاية ثانية إلى هدم النظام الاقتصادي الدولي لفترة ما بعد الحرب العالمية بالكامل. حيث إنَّ شراسة نزعة ترامب الانفرادية، وفوضوية مبادراته التجارية، ونفوره من التعاون متعدد الأطراف، واستخفافه بفكرة المشاعات العالمية في حد ذاتها، كلها عوامل من شأنها أن تتغلب على مرونة شبكة القواعد والمؤسسات التي تستند إليها العولمة. لكن هل سيؤدي انتصار جو بايدن إلى إصلاح النظام العالمي - وإذا كان الأمر كذلك، فما نوع هذا الإصلاح؟ في الواقع، هذا سؤال أكثر صعوبة.
ستظل الرغبة في محو إرث ترامب كما هي دون انتقاص، سواء في الولايات المتحدة أو على الصعيد الدولي. لكن مجرد محاولة استعادة وضع ما قبل ترامب ستفشل في مواجهة تحديات كبرى أسهم بعضها في انتخاب ترامب في عام 2016. وكما أشار رئيس معهد بيترسون، آدم بوسن، فإنَّ المهمة التي تنتظرنا هي مهمة إعادة بناء وليس إصلاح. ويجب أن تبدأ بتحديد واضح للمشكلات التي ينبغي أن يعالجها النظام الدولي.
يجب أن تُعطى الأولوية القصوى للتحرك نحو نظام موجه نحو المشاعات. في السابق، قوبلت فكرة الحفاظ على المنافع العامة العالمية مثل استقرار المناخ أو التنوع البيولوجي بالتجاهل، على نحو يمكن فهمه، من قبل مهندسي النظام الاقتصادي الدولي لما بعد الحرب. ثمَّ ظلت أمراً ثانوياً أثناء التجديد الجزئي للنظام بعد الحرب الباردة (وهو ما يصعب فهمه). حيث ركز صانعو السياسة على العلاقات الواضحة من خلال التجارة وتدفقات رأس المال، بدلاً من العلاقات غير الواضحة التي تربطنا بمصير مشترك، مما يساعد على تفسير سبب استمرار ضعف القواعد والمؤسسات التي تحكم الأخيرة.
لا شكَّ أنَّ نية بايدن في العودة غير المشروطة إلى اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 ستكون موضع ترحيب، لكنها في حد ذاتها لن تحول الاتفاقية إلى برنامج طموح وقابل للتنفيذ. حيث إنَّ زيادة عدد اللاعبين المحوريين، والإغراء القوي لفكرة السماح للآخرين بتحمل العبء، يجعلان الحفاظ على المشاعات العالمية أمراً صعبا للغاية. وحتى في مجال الصحة، نجد أنَّ الحلول المطروحة حتى الآن لا ترقى إلى مستوى التحدي.
لا شكَّ أنَّ العمل المناخي أمر بالغ الأهمية. وفي غياب إجماع عالمي، ينبغي أن تعتمد الجهود على تحالف يتفق أعضاؤه على أهداف صعبة وعلى آليات لتعديل الحدود تُطبق على التجارة مع بلدان ثالثة. بالطبع، سيكون التنفيذ محفوفاً بالصعوبات. وسيتوقف نجاح ذلك على الوصول لاتفاق حول أي التدابير التجارية مقبول وأيها مجرد غطاء للنزوع إلى سياسات الحماية. بالطبع، هذا مستوى عال من التحدي. وبعد أن أعرب بالفعل عن نيته في إدخال تعديل على الحدود، يقف الاتحاد الأوروبي في مقدمة هذه الجبهة. وهذه مسؤولية كبيرة.
تتمثل الأولوية الثانية في تحصين النظام الاقتصادي العالمي قدر الإمكان ضد التنافس. وبغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، ستستمر منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين في الهيمنة على العلاقات الدولية. لكن علينا ننتبه إلى أن تشبيه الحرب الباردة مضلل، لأنَّ أطراف النزاع اليوم هم شركاء اقتصاديون رئيسون. ففي حين أنَّ حصة الاتحاد السوفيتي من واردات الولايات المتحدة لم تتجاوز أبداً جزءاً من النقطة المئوية، تمثل الصين حالياً 18٪ من وارداتها. ويرى الأميركيون المتعصبون لفكرة فصل هذا الارتباط أنَّ زيادة التنمية الصينية تمثل تهديداً للأمن القومي، ويرغبون في إنهاء هذا الاعتماد المتبادل في محاولة لوقف الصعود الاقتصادي للصين، وهذا تفكير خاطئ. فكما احتج كبير زملاء معهد بيترسون، نيكولاس لاردي، فسيكون الانفصال العام عن الصين "سياسة عالية التكلفة ومنخفضة الفوائد".
يتعلق السؤال إذن بكيفية التعرف على حقيقة التوترات الجيوسياسية واحتواء تأثيرها في العلاقات الاقتصادية العالمية. وفي هذه الحالة، فالمقارنة المناسبة ليست مع الحرب الباردة، بل مع المنافسة بين بريطانيا وألمانيا في سياق الفترة الرئيسة الأولى للعولمة قبل عام 1914. حيث ثبت خطأ المزاعم المعاصرة بأنَّ العلاقات الاقتصادية جعلت الحرب غير متوقعة. لكن طالما امتنعت الدول عن خوض حرب حقيقية، فمن شأن وجود نظام قوي متعدد الأطراف أن يساعد على قمع الإغراءات بشن حرب من خلال وسائل أخرى.
الواقع أنَّ أوروبا هي أكبر المتفرجين في هذه الحالة. وهي تخاطر بالتعرض لأضرار جانبية من القتال بين العملاقين العالميين، وكلاهما بدأ في مضايقتها. لكن الاتحاد الأوروبي ليس ضعيفاً. ويجب أن يدافع عن النظام الاقتصادي الدولي القائم على القواعد، وأن يقود المعركة ضد استخدامه كسلاح. وكما أشار المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في تقرير صدر حديثاً، يجب أن تبدأ الكتلة بتجهيز نفسها ضد التدابير الاقتصادية القسرية.
الأولوية الثالثة هي تعزيز ضمانات العمال والمواطنين. حيث تصاعدت الشكوك الموجودة بالفعل بشأن العولمة نتيجة للصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين، وتزايد أوجه التفاوت، وإدراك حقيقة أنه تحت ضغوط حادة مثل الجائحة، قد تكافح الاقتصادات المتقدمة من أجل الحصول على معدات بسيطة. يريد المواطنون والعمال نظاماً اقتصادياً يحميهم بشكل أفضل. وبالفعل، لاحظت الحكومات ذلك، وتريد أن تظهر اهتمامها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يتحقق ذلك؟
ينبغي أن تكون الاستجابة الأولية محلية: من التعليم والتدريب إلى التنشيط وإعادة التوزيع على أساس المكان، وبمقدور الحكومات أن تحقق كثيراً من الإنجازات في هذا الصدد، لكنها أهملتها في ذروة عولمة السوق الحرة. والآن، حان الوقت لاعتماد سياسات جديدة.
مع ذلك، أظهرت التجربة أنَّ الحكومات الوطنية لا يمكنها عادة أن تقدم استجابة كاملة في غياب بيئة عالمية داعمة. فلا يمكن للبلدان أن تكبح جماح التهرب الضريبي من قبل الشركات العالمية، والمنافسة التنظيمية الشرسة، من تلقاء ذاتها. يجب أن يقرَّ صانعو السياسات على مستوى العالم بأنَّ استدامة الانفتاح الاقتصادي مشروطة بتوزيع فوائده بطريقة عادلة. وكما أشار أستاذ جامعة هارفارد داني رودريك منذ فترة طويلة، ينبغي للنظام العالمي أن يعزِّز الانفتاح ويفسح المجال للتكيف على المستوى الوطني.
يمثل كل هدف من الأهداف الثلاثة تحدياً مستقلاً - الحفاظ على المنافع العامة العالمية، واحتواء استخدام العلاقات الاقتصادية كسلاح، وجعل النظام أكثر عدلاً. ومن المؤكد أنَّ الجمع بين كل منهم سيكون أمراً شاقاً. فلم يسبق في التاريخ أن اضطرت مراكز قوى متنافسة إلى التعاون في مواجهة تهديدات مشتركة على درجات متماثلة من الأهمية. وليس من الصعب أن نتخيل كيف يمكن أن يستغل صانعو السياسة غايات جديرة بالثناء، مثل الحد من تسرب الكربون أو دعم ما تسميه أوروبا الآن "الحكم الذاتي الاستراتيجي"، وتحويلها إلى مبررات لسياسات الحماية الصريحة. علاوة على ذلك، كيف سيتجنب العالم تفككاً اقتصادياً عالمياً بينما يُنظر إلى الصين في الوقت ذاته باعتبارها تهديداً للأمن القومي، ومصدراً طائشاً للتلوث البيئي، وكياناً مدمراً للحقوق الاجتماعية؟ لا شكَّ أنَّ مثل هذه التحديات ستضع القادة تحت اختبار شديد خلال السنوات المقبلة.
ترجمة: معاذ حجاج Translated by: Moaaz Hagag
جان بيساني فيري كبير زملاء مركز أبحاث بروجل في بروكسل وكبير زملاء غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، ويشغل كرسي توماسو بادوا شيوبا في معهد الجامعة الأوروبية.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org