هل بلغنا أقصى حدود النمو؟
مايكل جاكوبز، شوليا ليكاج
برلين ــ يصادف هذا الربيع مرور خمسين عامًا على نشر واحد من أكثر الكتب تأثيرًا في القرن العشرين. استخدم كتاب "حدود النمو"، من تأليف دونيلا ميدوز وزملاء لها في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، نماذج حاسوبية جديدة للتنبُّؤ بانهيار لا يمكن السيطرة عليه في عدد سكان العالم والاقتصاد العالمي إذا استمرت الأنماط الغالبة في استخدام الموارد البيئية والتلوث. الواقع أنَّ النموَّ الاقتصاديَّ المتسارعَ من غير الممكن أن يستمرَّ إلى الأبد؛ فعند مرحلة ما خلال الأعوام المائة المقبلة، من المحتَّم أن يصطدم بالحدود البيئية المحدودة على كوكب الأرض.
بعد مرور نصف قرن من الزمن، وفي ظلِّ الأزمة المناخية والبيئية التي ألَمَّت بنّا، يعود بقوة الآن الجدال الذي أثاره كتاب حدود النمو عند صدوره.
في عام 1972، قوبل الكتاب بانتقادات شديدة مباشرة من اقتصاديين زعموا أنَّ مؤلفيه فشلوا في فهم أساسيات الاقتصاد. إذا أصبح أحد الموارد نادرًا، فسوف ترتفع أسعاره، كما أشاروا. وإذ ذاك، ستحلُّ محله موارد أخرى، وسوف تُـسـتَـخـدَم بقدر أكبر من الكفاءة. كما سيؤدي الإبداع التكنولوجي إلى ابتكار طرق إنتاج جديدة وأكثر نظافة. وبدلًا من تسببه في انهيار اجتماعي، كان النمو بذلك قادرًا على تصحيح مساره ذاتيًّا ــ ناهيك عن كونه السبيل الوحيد الذي تستطيع البلدان من خلاله التطوُّر والإفلات من براثن الفقر.
كان أهل الاقتصاد المنتمون إلى التيار السائد على يقين من أنَّ كتاب "حدود النمو" بعيد تمامًا عن الصواب، حتى إنَّ أحدهم، جوليان سيمون، دخل في رهان مع عالِـم البيئة بول إيرليش حول سعر خمسة معادن خلال العقد التالي. راهن إيرليش على أنَّ أسعارها سترتفع مع تزايد ندرتها، وتوقَّع سيمون أن تصبح أرخص مع حلول مواد أخرى محلها. وربح سيمون الرهان على الخمسة.
لكن نُـدرة المعادن ــ أو حتى الوقود الأحفوري ــ لم تكن قَـط موضوع كتاب "حدود النمو". فكما أشار نيكولاس جورجيسكو روجن وهيرمان دالي، الخبيران في الاقتصاد البيئي، فإنَّ السبب وراء وجود حدود مادية للنمو هو أنَّ المحيط الحيوي للكوكب من غير الممكن أن ينمو على نحو مضطرد. إذا قطعنا الأشجار بسرعة أكبر من قدرتها على النمو، فسوف ينتج عن ذلك إزالة الغابات. وإذا استهلكنا المزيد من الأراضي للزراعة، فسوف تختفي الأنواع. وبضخ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بسرعة أكبر من قدرته على امتصاصه، سترتفع درجات حرارة الكوكب.
ربما فاز سيمون برهانه لعشر سنوات، ولكن على مدار نصف القرن الأخير، أثبتت التوقُّعات الواردة في كتاب "حدود النمو" كونها سليمة بدرجة لافتة للنظر. أظهرت أبحاث علمية أقرب إلى الوقت الحاضر أننا فيما يتصل بمجموعة من أنظمة دعم الحياة ــ بما في ذلك المناخ ــ نقترب بسرعة من تجاوز، أو في بعض الحالات ربما تجاوزنا بالفعل، "الحدود الكوكبية" التي تستطيع البشرية ضمنها أن تزدهر بأمان.
بطبيعة الحال، يدرك أهل الاقتصاد المنتمون إلى التيار الرئيس هذه الحقيقة. لكنهم لاحظوا أنَّ النموَّ الاقتصادي يقاس من حيث الدخل الوطني والناتج (الناتج المحلي الإجمالي)، ولا توجد علاقة بسيطة بين هذه المؤشرات والتدهور البيئي. من الممكن أن يؤدي استخدام الطاقة المتجددة، وإعادة تدوير النفايات، وتحويل الاستهلاك من السلع إلى الخدمات، إلى جعل النمو الاقتصادي أقلَّ إضرارًا بالبيئة بدرجة كبيرة. وبهذا، يمكننا أن نحصل على "النمو الأخضر": مستويات معيشة أعلى وبيئة أكثر صحة أيضًا. على مدار العقد الماضي، أصبح النمو الأخضر الهدف الرسمي لكل المؤسَّسات الاقتصادية المتعددة الأطراف الرئيسة، بما في ذلك "البنك الدولي" و"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية".
في السنوات الأخيرة، انخفضت بالفعل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في البلدان الغنية، حتى مع نمو اقتصاداتها. لكن قدرًا كبيرة من هذا الفصل الواضح بين نمو الناتج المحلي الإجمالي والأضرار البيئية تحقَّق عن طريق نقل الانبعاثات إلى الصين والاقتصادات الناشئة التي تنتج الآن أغلب السلع المصنعة. وفي مجالات أخرى ــ بما في ذلك إزالة الغابات، والمخزونات السمكية، واستنفاد التربة ــ كان الفصل المطلق ضئيلا أو منعدما. وكما دأب الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيُّر المناخ، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، على تحذيرنا بقدر متزايد من الإلحاح، فإنَّ العالم لا يزال يتجه نحو كارثة بيئية.
ماذا يتعيَّن علينا أن نفعل لتجنُّب هذه الكارثة؟ من منظور مجموعة متزايدة البروز من دعاة حماية البيئة، الإجابة واضحة: ينبغي للاقتصادات المتقدمة أن تتوقَّف عن النمو وتبدأ في الانكماش. إنَّ "تقليص النمو"، كما يقول مؤلفون مثل جيسون هايكل وجورجوس كاليس، كفيل بتمكين العالم من الحياة في حدود إمكانياته البيئية وترك القدر الكافي من الموارد لتنمية البلدان الأكثر فقرًا.
علاوة على ذلك، يزعم أنصار تقليص النمو أنَّ النمو الاقتصادي ليس غير مستدام فحسب بل إنه يفشل أيضًا في جعلنا أفضل حالًا. وهم يلاحظون أنَّ نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلدان الغنية يرتبط الآن بمشكلات اجتماعية متعددة، من تفشّي التفاوت بين الناس إلى تزايد اعتلال الصحة العقلية.
ليس من المستغرب أن تكون المناقشة الاقتصادية بين دعاة النمو الأخضر وتقليص النمو هي أيضًا مجادلة سياسية بين الإيديولوجيات المؤيدة والمناهضة للرأسمالية. لهذا السبب جزئيًّا، برز وضع ثالث في السنوات الأخيرة ــ "ما بعد النمو".
ينتقد أنصار اقتصاديات ما بعد النمو المدافعين عن النمو الأخضر والمدافعين عن تقليص النمو بسبب تركيزهم على الناتج المحلي الإجمالي. الواقع أنَّ الناتج المحلي الإجمالي لا يقيس التدهور البيئي أو الرفاهة الاجتماعية، وعلى هذا فلا ينبغي أن يكون النمو أو تقليص النمو هدفًا اقتصاديًّا أساسيًّا. في تقرير حديث صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يزعم فريق من كبار خبراء الاقتصاد أنَّ السياسة الاقتصادية يجب أن تركز بدلًا من ذلك على أهداف المجتمع الأساسية ــ التي يجب أن تكون الاستدامة البيئية، وتحسين الرفاهة، وتضييق فجوة التفاوت، وتعظيم المرونة الاقتصادية في البلدان الأكثر ثراءً اليوم.
لم يعد من الممكن ضمان أيٍّ من هذه الغايات من خلال النمو الاقتصادي، ولهذا، يتعيَّن على صنّاع السياسات أن يحرصوا على "تجاوز النمو" لاستهدافها بشكل مباشر. على حد تعبير كيت راورث، مؤلفة كتاب "اقتصاديات الكعكة"، ينبغي لنا أن نكون "محايدين للنمو".
يتمثَّل أحد الأسباب الرئيسة وراء ظهور أفكار ما بعد النمو في أنَّ الاقتصادات المتقدمة كانت في السنوات الأخيرة تواجه متاعب في تحقيق أيِّ نموٍّ على الإطلاق. وحتى زيادات الناتج المحلي الإجمالي المعتادة في السابق بنسبة 2% إلى 3% سنويًّا، كانت بعيدة المنال إلى حدٍّ كبيرٍ، مع نمو متواضع لا تدعمه سوى أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض وضخ أموال البنك المركزي بكميات ضخمة.
الواقع أنَّ أهل الاقتصاد محيرون حول السبب وراء ذلك، لكن التباطؤ الاقتصادي في الآونة الأخيرة يجعل من الأسهل التفكير في معدلات النمو المنخفضة التي تجلبها السياسة البيئية، إذا كان هذا هو ما قد يحدث بالفعل. لا ينبغي للمرء أن يكون من دعاة حماية البيئة لكي يدرك الأولوية القصوى لكبح جماح التأثير المدمر الذي يخلفه الاقتصاد على مناخ كوكب الأرض وبيئته.
كان كتاب "حدود النمو" موضع تجاهل على نطاق واسع قبل نصف قرن من الزمن. ولو لم يحدث ذلك، لما كنّا في احتياج إلى إجراء هذه المناقشة مرة أخرى اليوم.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
مايكل جاكوبز أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة شيفيلد، والمؤلف المشارك لكتاب "النمو، أو تقليص النمو أو ما بعد النمو؟" (منتدى من أجل اقتصاد جديد، 2022). شوليا ليكاج خبيرة الاقتصاد في منتدى الاقتصاد الجديد في برلين، والمؤلفة المشاركة لكتاب "النمو، أو تقليص النمو أو ما بعد النمو؟" (منتدى من أجل اقتصاد جديد، 2022).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org