هل يسقط الدولار الكلي القدرة؟
نورييل روبيني
نيويورك ــ كان الانخفاض الحاد الأخير في قيمة الدولار الأميركي سبباً في نشوء المخاوف حول احتمالات خسارته لدوره كعملة احتياطية عالمية رئيسة. فإضافة إلى سياسة التيسير النقدي القوية التي انتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ــ التي تهدد بالمزيد من خفض قيمة العملة الورقية الرئيسة في العالَـم ــ كانت أسعار الذهب وتوقُّعات التضخُّم أيضاً في ارتفاع.
ولكن، في إعادة صياغة لمقولة مارك توين، أرى أنَّ "التقارير حول زوال الدولار المبكر مبالغ فيها إلى حدٍّ كبير". الواقع أنَّ ضعف الدولار الأخير يعود إلى عوامل دورية قصيرة الأمد. أما على المدى البعيد فإنَّ الوضع أشد تعقيداً: يتميَّز الدولار بمواضع قوة ونقاط ضعف قد تقوض أو لا تقوض موقعه العالمي بمرور الوقت.
تُـعَـدُّ السياسة النقدية المفرطة في التساهل التي ينتهجها بنك الاحتياطي الفيدرالي بين العوامل السلبية القصيرة الأمد الرئيسة. فمع قيام الولايات المتحدة بتحويل عجز الموازنة المتزايد الحجم إلى نقود، يبدو نهج بنك الاحتياطي أكثر ملاءمة من ذلك الذي تتبنّاه أغلب البنوك المركزية الكبرى الأخرى.
يميل الدولار إلى الضعف أثناء نوبات الإقبال على المخاطر، والعكس صحيح. هذا هو السبب وراء الذروة التي بلغتها قيمته أثناء حالة الذعر المرتبطة بجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في الفترة من فبراير/شباط إلى مارس/آذار، ثمَّ اتجاهه إلى الضَـّعف بدءاً من إبريل/نيسان فصاعداً مع تعافي معنويات السوق. علاوة على ذلك، كان تنشيط بنك الاحتياطي الفيدرالي لخطوط مقايضة العملات مع غيره من البنوك المركزية سبباً في التخفيف من نقص سيولة الدولار التي كانت تدفع سعر الصرف إلى الارتفاع في وقت سابق من الأزمة. والآن يفرض تدفق الدولارات العالمي الضغوط عليه دافعاً إياه إلى الهبوط.
علاوة على ذلك، كان أداء بعض البلدان المتقدمة (في أوروبا وأماكن أخرى) وبعض الأسواق الناشئة (مثل الصين وغيرها من البلدان في آسيا) أفضل كثيراً في احتواء كوفيد-19 مقارنة بالولايات المتحدة، مما يعني ضمناً أنَّ تعافيها الاقتصادي ربما يكون أكثر مرونة وصموداً. وعلى هذا فإنَّ فشل الصحة العامة ونقاط الضعف الاقتصادية ذات الصلة في الولايات المتحدة تسهم بشكل أكبر في ضعف الدولار.
من الأهمية بمكان أيضاً أن نؤكد مراراً وتكراراً على أنَّ قيمة الدولار قبل الجائحة ارتفعت بأكثر من 30% بالقيمة الاسمية والحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) منذ عام 2011. ونظراً للعجز الخارجي الأميركي المتزايد الضخامة، ولأنَّ أسعار الفائدة ليست مرتفعة بالقدر الذي يسمح بتمويلها باستخدام تدفقات رأس المال إلى الداخل، فإنَّ خفض قيمة الدولار كان ضرورياً لاستعادة القدرة التنافسية التجارية الأميركية. ويشير لجوء الولايات المتحدة إلى تدابير الحماية إلى أنها تفضل الدولار الأضعف لاستعادة قدرتها التنافسية في الخارج.
وحتى في الأمد القريب، قد ترتفع قيمة الدولار مرة أخرى إذا حدث ــ كما تشير أحدث بيانات النمو العالمي ــ أَنْ تباطَأَ التعافي السريع على هيئة حرف V ليتحوَّل إلى نوع من التعافي الهزيل على هيئة حرف U، ناهيك عن الركود المزدوج، إذا لم تتم السيطرة على الموجة الأولى من الجائحة وتسببت موجة ثانية في قتل التعافي قبل التوصل إل لقاحات فعّالة.
في الأمد المتوسط إلى الطويل، ربما تسهم عوامل متعددة في الحفاظ على الهيمنة العالمية التي يتمتَّع بها الدولار. فسوف يستمر الدولار في الاستفادة من نظام واسع الانتشار لأسعار الصرف المرنة، وضوابط رأس المال المحدودة، وأسواق السندات العميقة السائلة. الأمر الأكثر أهمية يتمثل في غياب أي عملة بديلة واضحة من الممكن أن تخدم كوحدة محاسبة واسعة، ووسيلة للدفع، ومخزن ثابت للقيمة.
علاوة على ذلك، على الرغم من الآلام المصاحبة للجائحة، فإنَّ معدل النمو السنوي الأميركي المحتمل، عند مستوى 2% تقريباً، يظل أعلى من نظيره في أغلب الاقتصادات المتقدمة الأخرى، حيث يقترب من 1%. كما يظل الاقتصاد الأميركي محتفظاً بديناميكيته وقدرته على المنافسة في العديد من الصناعات الرائدة، مثل التكنولوجيا، والتكنولوجيا الحيوية، والمستحضرات الصيدلانية، والرعاية الصحية، والخدمات المالية المتقدمة، والتي ستستمر جميعها في اجتذاب تدفقات رأس المال من الخارج.
إنَّ أي دولة تنافس الولايات المتحدة على مركزها يتعيَّن عليها أن تسأل نفسها ما إذا كانت تريد حقاً أن تنتهي بها الحال إلى امتلاك عملة قوية مع كل ما يرتبط بذلك من عجز كبير في الحساب الجاري والذي يأتي مع تلبية الطلب العالمي على الأصول الآمنة (السندات الحكومية). يبدو هذا السيناريو غير جذّاب إلى حد كبير في نظر أوروبا، أو اليابان، أو الصين، حيث تشكل الصادرات القوية أهمية مركزية للنمو الاقتصادي. وفي ظل الظروف الحالية، من المرجح أن تحافظ الولايات المتحدة على "امتيازها الباهظ" باعتبارها الدولة الـمُـصـدِّرة للديون الآمنة الطويلة الأجل التي يريدها المستثمرون من القطاعين العام والخاص في محافظهم.
السؤال إذاً: ما هي العوامل التي قدر تقوض المركز العالمي الذي يتمتع به الدولار بمرور الوقت؟ أولاً، إذا استمرت الولايات المتحدة في تحويل عجز الموازنة الضخم إلى نقود، على النحو الذي يغذي بدوره عجزاً خارجياً ضخماً، فإنَّ ارتفاع التضخم في نهاية المطاف ربما يخفض قيمة الدولار ويضعف جاذبيته كعملة احتياطية. وعلى ضوء المزيج الحالي من السياسات الاقتصادية الأميركية، فإنَّ هذا يُـعَـدُّ خطراً متنامياً.
يتمثل خطر آخر في خسارة الدولار الأميركي لهيمنته الجيوسياسية، وهذا واحد من الأسباب الرئيسة وراء استخدام العديد من الدول للدولار في المقام الأول. لا شيء جديد حول كون العملة المهيمنة هي العملة الاحتياطية العالمية. وكانت هذه هي الحال مع إسبانيا في القرن السادس عشر، والهولنديين في القرن السابع عشر، وفرنسا في القرن الثامن عشر، وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر. وإذا جلبت العقود المقبلة ما يسميه كثيرون بالفعل "القرن الصيني"، فربما يضمحل الدولار في حين يرتفع الرنمينبي.
قد يُـفضي استخدام الدولار كسلاح من خلال العقوبات التجارية، والمالية، والتكنولوجية، إلى التعجيل بعملية الانتقال. وحتى إذا انتخب الأميركيون رئيساً جديداً في نوفمبر/تشرين الثاني، فمن المرجَّح أن تستمرَّ هذه السياسات، مع تحوُّل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين إلى اتجاه طويل الأمد، ومع حرص خصمي الولايات المتحدة الاستراتيجيين (الصين وروسيا) وحلفائها على حد سواء على التنويع بعيداً عن الأصول الدولارية التي قد تُـفرَض عليها العقوبات أو تُـصادَر.
في الوقت ذاته، كانت الصين تعرض قدراً أكبر من المرونة في سعر صرف عملتها، وتخفف تدريجيا بعض ضوابط رأس المال، وتخلق أسواق ديون أكثر عمقاً. كما أقنعت الصين عدداً أكبر من شركاء التجارة والاستثمار باستخدام الرنمينبي كوحدة محاسبة، ووسيلة للدفع، ومخزن للقيمة، بما في ذلك في هيئة أصول أجنبية. وهي تبني نظاماً بديلاً لجمعية المعاملات المالية بين المصارف العالمية التي يقودها الغرب (SWIFT)، وتعمل على إصدار الرنمينبي الرقمي الذي يمكن تدويله في نهاية المطاف. وتقوم شركات الصين التكنولوجية العملاقة بإنشاء منصات ضخمة للتجارة الإلكترونية والمدفوعات الرقمية (Alipay وWeChat Pay) والتي يمكن أن تتبناها بلدان أخرى باستخدام عملاتها المحلية.
وعلى هذا، ففي حين لا يزال وضع الدولار آمناً في الوقت الحالي، فإنه يواجه تحديات كبيرة في السنوات والعقود المقبلة. صحيح أن النظام الاقتصادي الصيني (رأسمالية الدولة في ظل ضوابط رأسمالية) ونظامها السياسي التكنوقراطي الاستبدادي لا يحظيان بقدر كبير من الجاذبية في الغرب. لكن النموذج الصيني أصبح بالفعل جذاباً إلى حد كبير في نظر العديد من الأسواق الناشئة والدول الأقل ديمقراطية. بمرور الوقت، مع توسع قوة الصين الاقتصادية، والمالية، والتكنولوجية، والجيوسياسية، ربما تنجح عملتها في شن غزوات ناجحة في أجزاء متزايدة من العالم.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
نورييل روبيني أستاذ علوم الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، وهو مضيف موقع NourielToday.com.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org