خنق المينوتور العالمي
جيمس ك. جالبريث
أوستن ـ تُعدُّ سلسلة الإمداد أشبه باختبار رورشاخ، حيث يرى فيه كل محلل اقتصادي نمطًا يعكس تصوراته المسبقة. قد يكون هذا أمرًا حتميًّا، لأنَّ كل شخص هو نتاج تعليمات وخلفيات وتحيزات مختلفة. لكن بعض الأنماط المرصودة أكثر قابلية للتصديق من غيرها.
يجب أخذ بعين الاعتبار عينات وجهات النظر التالية. ووفقًا لجيسون فورمان، كبير المستشارين الاقتصاديين لدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما سابقًا، ولورنس إتش سمرز، وزير الخزانة الأمريكي السابق، تتعلق مشكلة سلسلة التوريد اليوم بالطلب المُفرط. وبحسب فورمان، فإنها قضية "من الدرجة العالية" والتي تعكس اقتصادًا قويًّا. كانت "الخطيئة الأصلية" هي خطة الإنقاذ الأمريكية، التي قدمت الكثير من الدعم من خلال الأموال التي تمَّ توزيعها مباشرة على الأسر الأمريكية.
وبالنسبة لجون تامني، المُحرر في صحيفة "RealClearMarkets"، فإنَّ مشكلة سلسلة التوريد تتعلق بـ "التخطيط المركزي". لو لم تقم إدارة الرئيس جو بايدن بإرسال توجيهات إلى مديري الموانئ، لكانت الأسواق الحرة قد تمكَّنت من تسوية كل المشكلات. وبالنسبة لأوي فيدرغروين، أستاذ الإدارة في كلية كولومبيا للأعمال، فإنَّ المشكلة تكمن في عدم الكفاءة، وعلاجها يتمثّل في العمل بجد وتحقيق المزيد بموارد أقل.
لا تخضع أي من هذه التفسيرات للتدقيق. لقد فشل سيناريو الطلب المُفرط من الوهلة الأولى. فبعد كل شيء، لا يوجد نقص في السلع. إنَّ السفن المحملة بالإمدادات - 30 مليون طن منها- موجودة الآن خارج موانئ الولايات المتحدة، مع المزيد منها على الطريق. كما أنَّ أسعار الإنتاج لم ترتفع بشكل حاد. فقد كان الجزء الأكبر من "التضخم" حتى الآن في مجال الطاقة (مدفوعًا جزئيًّا بالانتعاش من الركود الناجم عن اندلاع الجائحة) وفي السيارات والشاحنات المستعملة، التي كانت تنتج سابقًا سلعًا مطلوبة بسبب نقص أشباه الموصلات الذي يؤثر في الشركات المصنعة للسيارات.
ولا يمكننا القول أيضًا إنَّ هذا النقص على وجه التحديد ليس نتيجة "زيادة الطلب". أثناء الجائحة، تنبأ صُنّاع الشرائح الإلكترونية بتحول أكبر في تكوين الطلب - نحو الأدوات والأجهزة المنزلية وبعيدًا عن السيارات - مما حدث بالفعل. الآن لديهم الكثير من نوع واحد من الرقائق وعدد غير كافي من الأنواع الأخرى.
أما فيما يتعلق بعنصر "التخطيط المركزي"، فهذا أمر مُتوقع من دوائر مُعينة. وهذا يعني ضمنًا أن َّكل شيء سيكون على ما يرام لو لم تنتبه إدارة بايدن للأمر. بغض النظر عن أنَّ تدخل بايدن كان لمجرد حث مديري الموانئ على العمل "على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع" لتفريغ القوارب - وهي فكرة يفترض المرء أنها خطرت ببالهم بالفعل.
تقترب النقطة المتعلقة "بالكفاءة" أكثر من الواقع، إلا أنَّ المشكلة لا تتعلق بالافتقار إلى الكفاءة، بل في الكفاءة المُفرطة. وعلى وجه التحديد، فإنَّ الكفاءة القصوى لسلاسل التوريد العالمية اليوم هي أيضًا عيبها القاتل. تُعدُّ الموانئ التي تُدار بشكل جيد بمنزلة نماذج للإنتاجية الفائقة والتكاليف المنخفضة. وهي تحتوي على أرصفة التحميل، وخطوط السكك الحديدية، وخزائن للشاحنات، وأماكن للتخزين، ومعدات رفع الأثقال لتلائم حركة المرور التي يتوقعونها. إن بناء القدرات بما يتجاوز هامش الأمان الصغير سيكون مجرد إهدار.
وفي الأوقات العادية، تظل أي قدرة فائضة غير مُستَغلة، ولا تُحقق أي إيرادات في حين لا يزال يتعين تسديد الفوائد على الديون الصادرة لبنائها. ومع مرور الوقت، سيعمل المتعهدون الأكثر كفاءة على التقليل من القدرة الفائضة وإبقاء الأرصفة والآلات التي لديهم بعيدًا. يعكس النجاح الباهر الذي حقَّقته سلاسل التوريد العالمية - حتى الآن - اعتماد هذا المبدأ بشكل مُستمر.
وفي ظل الركود الناتج عن الجائحة، كان جزء كبير من طاقة الموانئ الأمريكية معطلاً لفترة وجيزة. وعندما توقف الإنتاج وظلت سفن الحاويات راسية في الموانئ الآسيوية، تركت الشاحنات الأمريكية الحاويات الفارغة الخاصة بها لتتكدس في الموانئ، في انتظار السفن لإعادتها إلى آسيا. ولكن بعد ذلك انتعش الطلب وعاد الإنتاج إلى سابق عهده - بل تسارع - حيث حولت الأسر دخلها من الخدمات إلى السلع. وقد بدأت السفن التي تحمل البضائع في الظهور مرة أخرى. ولكن كانت هناك مشكلة جديدة: لتفريغ الحاويات الممتلئة، يجب أن يكون لدى المرء مكان لوضعها. وبحسب التقارير الصحفية، فقد امتلأت الساحات والمخازن بالفعل بالحاويات الفارغة. علاوة على ذلك، لم تتمكن الشاحنات التي تحمل حاويات فارغة جديدة من تفريغها، وبالتالي لم تتمكَّن من استيعاب حاويات جديدة.
وهكذا، ستظل الحاويات مُصطفة في انتظار التفريغ. تُعدُّ الحلول الجزئية - تكديس الحاويات الفارغة في أماكن مُرتفعة، على سبيل المثال - غير فعّالة على المدى البعيد. على مدى فترة أطول، يمكن بناء أرصفة وخطوط سكك حديدية جديدة. لكن كل ذلك سيستغرق وقتًا طويلاً، المكان (ليس من السهل العثور عليه، كما تبين)، والمعدات الثقيلة نفسها يجب أن تُحمل من مكان آخر، وربما على متن سفينة.
تُعدُّ سلسلة التوريد بمثابة بيئة كاملة، كونها كيانًا فيزيائيًّا حيويًّا. يتطلب من جميع أجزائها العمل بسلاسة طوال الوقت. لا تقتصر الإخفاقات على جزء مُعين، ولا يمكن تجاوزها بزيادة بسيطة في الأسعار أو الرسوم، أو عن طريق إحداث بعض التغيير السريع في التقنيات. وبدلًا من ذلك، فإنها تتدرج من خلال نظام تمَّ بناؤه بطريقة مُعينة؛ يمكن أن يصبح أي انهيار في جزء واحد انهيارًا عامًا.
في كتابه الرائع الذي صدر في عام 2011 بعنوان "المينوتور العالمي"، قارن الخبير الاقتصادي (ووزير المالية اليوناني المستقبلي) يانيس فاروفاكيس الولايات المتحدة بالوحش الأسطوري الذي عاش في متاهة لا يمكن لأي شخص دخل إليها أن يهرب. ومنذ 40 عامًا، استحوذ الاقتصاد الأمريكي على السلع الاستهلاكية التي تنتجها اليابان وكوريا الجنوبية والصين وغيرها من الدول. وللحفاظ على المينوتور الجشع والنهم، قام العالم ببناء متاهة عالمية من الموانئ والسفن والمزيد من الموانئ والمستودعات وساحات التخزين والطرق والسكك الحديدية.
وفي يوم من الأيام، مرض المينوتور وفوّت وجبة طعام. وفي اليوم التالي، سعى للتعويض عن هذه الوجبة من خلال تناول أربع وجبات، إلا أنَّ مريئه لم يكن واسعًا بما يكفي لهضم جميعها. وبذلك، يجلس المينوتور الآن مُختنقًا وعاجزًا، على أمل التخلص من هذا الاحتقان. إذا لم يحدث ذلك، فقد تكون العواقب وخيمة. إذا حدثت عملية خنق الوحش بهذه الطريقة للبطل الأثيني ثيسيوس، فربما لم يكن ليحتاج أريادني "بنت الملك مينوس" أو سيفها أو كرة الغزل الخاصة بها.
كان جيمس ك. جالبريث، الأستاذ بجامعة تكساس في أوستن، مستشارًا لوزارة المالية اليونانية في عام 2015.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org