كم قد تكلِّفنا الجائحة؟
أندرو شينج، شياو قنج
هونج كونج ــ مع دخول جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) عامها الثالث، كانت الولايات المتحدة تتمتَّع بطفرة ازدهار مطولة في سوق الأسهم، وبلغ الفائض التجاري لدى الصين مستويات غير مسبوقة من الارتفاع. هناك سبب يحملنا على الاعتقاد بأنَّ هذه الاتجاهات لن تدوم: بشكل خاص، مع استعداد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لإحكام سياسته النقدية في مواجهة التضخُّم المرتفع، انهارت سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة.
ولكن حتى لو استمرَّت حماسة السوق الشديدة أو الصادرات القوية في أكبر اقتصادات العالم، فسوف يعاني أغلب الناس من المشقة والقلق. ولا يجوز لنا أن نغفل عن ذلك، ناهيك عن حتمية التغيير المنهجي.
في الاستجابة للجائحة، واجه صنّاع السياسات معضلة مروعة: الإبقاء على الاقتصاد مفتوحًا والمخاطرة بالمزيد من الوفيات الناجمة عن جائحة كوفيد-19، أو فرض الإغلاق وتدمير سبل العيش. كما يشير الاقتصادي دبليو. كيب فيسكوسي من جامعة فاندربيلت، تتمثل إحدى طرق تبسيط المقايضة بين الفوائد المترتبة على تقليل المخاطر الصحية وتكاليف الارتباكات الاقتصادية في "تسييل" وفيات كوفيد-19 نقديًّا.
باستخدام قيمة الحياة الإحصائية كمقياس، وجد فيسكوسي أنَّ تكلفة الوفيات الناجمة عن كوفيد-19 في النصف الأول من عام 2020 بلغت 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة، ونحو 3.5 تريليونات دولار على مستوى العالم. ورغم أنَّ الولايات المتحدة مثَّلت حتى الآن 25% من الوفيات، فإنَّ نصيبها من تكلفة الوفيات العالمية كانت 41%، لأنَّ مقياس قيمة الحياة الإحصائية في البلدان الأكثر ثراءً أعلى. تقدّر قيمة الأميركي بنحو 11 مليون دولار، في حين تبلغ قيمة الأفغاني 370 ألف دولار فقط.
إذا طبقنا ذات المقياس على الوفيات المسجلة رسميًّا حتى نهاية عام 2021 ــ التي بلغت في مجموعها 5.6 ملايين وفاة ــ فسوف تكون تكلفة الوفيات 38 تريليون دولار، أو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وإذا أخذنا بتقديرات مجلة الإيكونوميست للوفيات الفعلية، ما يقرب من 17 مليون وفاة، يرتفع الرقم إلى 114 تريليون دولار، أو 120% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
تعاملت الصين مع هذه المقايضة على نحو مختلف تمامًا عن الولايات المتحدة، حيث اختارت حماية الأرواح من خلال الإغلاق الصارم، حتى على الرغم من الارتباكات الاقتصادية الأكبر. لو كان معدل الإصابة في الصين مماثلًا لنظيره في الولايات المتحدة، وذات معدل الوفيات (أكثر من 2.9% قليلًا)، فإنَّ إجمالي الوفيات لديها نتيجة لجائحة كوفيد-19 كان ليصل إلى 4.1 ملايين وفاة، وليس 4849 وفاة وفقًا للسجلات الرسمية. يعني مقياس الحياة الإحصائية بقيمة 2.75 مليون دولار في الصين أنَّ هذا كان ليعني خسائر إضافية تقدَّر بنحو 11.3 تريليون دولار، أو 67% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021. ولأنَّ أداء الاقتصاد الصيني كان جيدًا نسبيًّا أثناء الجائحة على الرغم من الإغلاق، فيبدو من العدل أن نستنتج أنَّ النهج الذي سلكته الصين أدّى إلى انخفاض التكاليف الإجمالية.
في كلِّ الأحوال، كانت التكاليف الفعلية المترتبة على جائحة كوفيد-19 حتى الآن أعلى مما يشير إليه مقياس قيمة الحياة الإحصائية. فبتجميع الوفيات، والمرض، وحالات الصحة العقلية، والخسائر الاقتصادية المباشرة، تشير تقديرات وزير الخزانة الأميركي السابق لاري سمرز والاقتصادي ديفيد م. كتلر من جامعة هارفارد إلى أنَّ الولايات المتحدة تحمَّلت خسائر قدرها 16 تريليون دولار ــ ما يعادل 90% من الناتج المحلي الإجمالي ــ في عام 2020.
على الرغم من هذه التكاليف الباهظة، فإنَّ المعضلة التي تواجهها دولة مثل الولايات المتحدة أو الصين أقل حِـدة من تلك التي تواجهها الاقتصادات النامية. في ظل الديون الضخمة والقدرة المحدودة على الاقتراض، كانت الخيارات المتاحة لحكومات هذه البلدان محدودة فيما يتصل بدعم اقتصاداتها. كما تسبّب نقص اللقاحات وضعف الأنظمة الصحية في جعلها أكثر عُـرضة للخطر.
حذَّر صندوق النقد الدولي أخيرًا من المزيد من تراجع الدخل في 40 دولة هشّة ومبتلاة بالصراعات خلف بقية العالم بسبب الجائحة. ليس من الصعب تمييز السبب: فمثل هذه البلدان تفتقر إلى القدرة أو الموارد المؤسَّسية اللازمة لإدارة أو تخفيف المخاطر الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية، أو الأمنية، أو البيئية بفعالية. بالفعل، بلغ العنف أعلى مستوياته في ثلاثين عامًا على مستوى العالم. وربما تمثل الدول الهشة ــ التي يقطنها ما يقرب من مليار نسمة ــ نحو 60% من فقراء العالم بحلول عام 2030.
كل هذا يلقي بظلال كثيفة على الاقتصاد العالمي. يتنبأ أحدث إصدار من تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر عن البنك الدولي بتباطؤ النمو العالمي من 5.5% في عام 2021 إلى 4.1% في عام 2022 ثم 3.2% في عام 2023. خلف هذه التوقعات تقبع التهديدات التي تفرضها متحورات كوفيد-19 الجديدة، وارتفاع التضخم، والديون المتصاعدة، واتساع فجوات التفاوت، والتحديات الأمنية المقلقة.
يقيس الاقتصاديون من أمثال فيسكوسي وسمرز، والعاملين في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خيارات السياسة والعواقب المترتبة عليها على أساس التكاليف النقدية أو الناتج المحلي الإجمالي. لكن المعضلة التي يواجهها صنّاع السياسات أخلاقية في الأساس، وتمتد جذورها بشكل خاص إلى مسألة متى يجب أن تكون الغَـلَـبة للتفضيلات الفردية على المصالح الجماعية. علاوة على ذلك، على الرغم من الصراحة الواضحة لحسابات التكلفة والعائد، تُـعَـدُّ الجائحة في نهاية المطاف تحديًا جهازيًا متشابكًا مع تحديات أخرى، من التفاوت بين الناس إلى تغيُّر المناخ.
لا توجد حلول بسيطة. فكما زعمت مينوش شفيق، مديرة كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية أخيرًا، أوضحت الجائحة احتياجنا إلى عقد اجتماعي جديد مناسب للتحديات المعاصرة.
تردد صدى هذا المبدأ في الولايات المتحدة في عام 1823، عندما قضت المحكمة العليا بأنَّ حقوق الدولة تسبق حقوق السكان الأصليين.
الحقُّ أنَّ العقد الاجتماعي الذي نحتاج إليه يجب أن يعكس القوى والقيم التي تشكّل العالَـم الذي نعيش فيه اليوم، بما في ذلك الترابط العميق بين اقتصاداتنا ومجتمعاتنا، والقيمة المتأصلة لجميع البشر، والتحدي الوجودي المشترك المتمثل في تغيُّر المناخ. اليوم لم يعد الاختيار بين الهيمنة أو الخضوع للهيمنة؛ بل بين أن نعمل سويًّا أو نهلك معًا.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
أندرو شنج زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونج كونج، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام. شياو قنج رئيس مؤسسة هونج كونج للتمويل الدولي، وأستاذ ومدير معهد السياسة والممارسة التابع لمعهد شينزن للتمويل في جامعة هونج كونج الصينية في شينزن.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2022.
www.project-syndicate.org