قراءة في أسباب ومآلات تجدد النزعات القومية
- لإضافته إلى المفضلة
دارون عاصم أوغلو
يؤكد خبراء ومحللون كثيرون أن النزعة القومية عادت، وهي تلعب دوراً مركزياً في السياسة العالمية. وعملياً، لا يقتصر هذا الاتجاه على الولايات المتحدة بل إن تلك النزعة تتأجج في دول كثيرة بعالمنا مسببة مجموعة من الإفرازات والمخاطر المستقبلية. ونجد فعلياً أنه تقود القومية أيضاً الحركات الشعبوية في دول عدة.
وربما يكون لزاماً على الغرب أن يتقبل حقيقة مفادها أنه لا يستطيع التأثير بشكل جدير بالثقة على مسارات شركائه التجاريين السياسية. ويتعين عليه أن يعمل أيضاً على إنشاء تدابير وقائية جديدة لضمان عدم تأثير الأنظمة بأنواعها كافة، على سياسته. وفي المقام الأول من الأهمية، يجب أن يدرك قادة الغرب أنهم سيكتسبون قدراً أعظم من المصداقية في الشؤون الدولية إذا اعترفوا بما كانوا قد قاموا به من ممارسات وسلوكيات في الماضي خلال الحقبة الاستعمارية وزمن الحرب الباردة.
الواقع إن عصر انبعاث النزعة القومية من جديد يزودنا ببعض الدروس. فقد نحتاج إلى إعادة النظر في كيفية تنظيم عمليات العولمة الاقتصادية. ليس هناك من شك في أن التجارة المفتوحة من الممكن أن تحمل فوائد جمة للاقتصادات النامية والمتقدمة على حد سواء. ولكن في حين عملت التجارة على خفض الأسعار لصالح المستهلكين الغربيين، فإنها ساعدت أيضاً في مضاعفة أوجه التفاوت وعملت على إثراء القِـلة النخبوية في الكثير من المناطق والدول. وكان رأس المال، وليس العمالة، هو المستفيد الرئيسي.
لكل هذا، يتعين علينا أن ننظر في نُـهـج بديلة. في المقام الأول من الأهمية، لم يعد من الممكن أن تتولى الشركات المتعددة الجنسية، التي تستفيد من المراجحة على نحو مصطنع في الأجور المنخفضة ومعايير العمل غير المقبولة في الأسواق المتعددة، إملاء الترتيبات التجارية. ولا يمكننا أن نتحمل ترف تأسيس العلاقات التجارية على مزايا التكلفة الناتجة عن مصادر طاقية محددة.
لم تكن مشاعر الحبور التي أعقبت سقوط سور برلين في عام 1989 مرتبطة فقط بما أسماه العالِم والفيلسوف الاقتصادي والسياسي فرانسيس فوكوياما «نصراً صارخاً لليبرالية الاقتصادية والسياسية». كان الأمر متعلقاً أيضاً بتراجع النزعة القومية. مع تزايد تكامل الاقتصاد العالمي بوتيرة سريعة، كان من المفترض أن يترك الناس هوياتهم الوطنية وراءهم. لم يكن مشروع التكامل الأوروبي ــ الذي تبناه بحماس شباب جيد التعليم يتطلع إلى مكانة أعلى ــ متجاوزاً للحدود الوطنية فحسب، بل كان أيضاً متعدياً للنزعة الوطنية.
ينطوي الأمر على ثلاثة عوامل على الأقل تغذي النزعة القومية الجديدة. أولاً، العديد من البلدان المتضررة تحمل مظالم تاريخية.
ثانياً، تسببت العولمة في زيادة حدة توترات كانت قائمة من قبل. فهي لم تكتف بتعميق فجوات التفاوت في العديد من البلدان (بطرق غير عادلة غالباً، من خلال إثراء أولئك الذين يتمتعون بصلات سياسية قوية)؛ بل أدت أيضاً إلى تآكل التقاليد والأعراف الاجتماعية القائمة منذ أمد بعيد.
وثالثاً، أصبح القادة السياسيون بارعين على نحو متزايد ومجردين من المبادئ في استغلال النزعة القومية لخدمة أجنداتهم الخاصة.
تُـعَـد القومية اليوم أيضاً ردة فعل معززة ذاتياً على مشروع العولمة بعد الحرب الباردة. في عام 2000، وصف المرشح الرئاسي الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش التجارة الحرة على أنها «حليف مهم في ما أسماه رونالد ريجان استراتيجية جريئة من أجل الحرية... بالتجارة الحرة مع الصين، يُـصبِـح الوقت في صالحنا». كان الأمل أن تؤدي التجارة العالمية إلى التقارب الثقافي والمؤسسي. ومع تزايد أهمية التجارة، تصبح الدبلوماسية الغربية أكثر قوة، لأن البلدان النامية ستخشى خسارة القدرة على الوصول إلى الأسواق ومصادر التمويل الأمريكية والأوروبية.
لم تسر الأمور على ذلك المنوال. فقد جرى تنظيم العولمة على النحو الذي أدى إلى خلق مكاسب كبيرة غير متوقعة للبلدان النامية التي تمكنت من إعادة توجيه اقتصاداتها نحو الصادرات الصناعية مع الإبقاء على الأجور منخفضة في الوقت ذاته (الوصفة السرية لصعود الصين)، والاقتصادات الناشئة الغنية بالنفط والغاز. لكن الاتجاهات ذاتها عملت على تمكين القادة القوميين الذين يتمتعون بشخصية كاريزمية.
ولأن البلدان النامية التي تتمتع بمواقع جيدة نجحت في جمع المزيد من الموارد، فقد اكتسبت قدرة أكبر على تنفيذ المشاريع الدعائية وبناء التحالفات. لكن الأمر الأكثر أهمية كان البعد الإيديولوجي. لأن الدبلوماسية الغربية أصبحت تُـرى بشكل متزايد على أنها شكل من أشكال التدخل (وهو تصور له بعض ما يبرره)، فقد أثبتت الجهود الرامية إلى الدفاع عن حقوق الإنسان، أو حرية وسائل الإعلام، أو الديمقراطية في العديد من البلدان كونها غير فعّالة أو هَـدَّامة.
* أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمؤلف المشارك (مع جيمس روبنسون) لكتاب «لماذا تفشل الأمم: أصل القوة والرخاء والفقر» (بروفايل، 2019)، وكتاب «الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية» (بنجوين، 2020)