Dubai Digital Authority - هيئة دبي الرقمية

Contrast

Use toggle below to switch the contrast

Contrast

Read Speaker

Listen to the content of the page by clicking play on Listen

screen reader button

Text Size

Use the buttons below to increase or decrease the text size

A-
A
A+

أميركا اللاتينية والعاصفة المثالية

خافيير سولانا، إنريكي إجليسياس

مدريد/مونتيفيديو ــ تشهد أميركا اللاتينية مجموعة شديدة الخطورة من الأزمات. إذ تعيش اقتصادات المنطقة حالة من الركود الشديد. وسياساتها معطلة. وفوق كل شيء، أصبحت صحة شعوبها عُـرضة للخطر. وتشهد الاحتجاجات الحاشدة التي اندلعت أخيرًا في العديد من البلدان على شدة خطورة المشكلات التي يتعيَّن على قادة المنطقة والمجتمع الدولي التصدي لها الآن.

برغم أنها تمثل ما يزيد قليلًا على 8% من سكان العالم، فقد سجلت أميركا اللاتينية أكثر من 30% من الوفيات المؤكدة بمرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). ومع استثناءات قليلة، لا يزال التطعيم في المنطقة يتقدم ببطء شديد. في بيرو، حيث كانت معدلات الوفيات بكوفيد-19 بين الأعلى على الإطلاق، تلقى نحو 20% فقط من السكان جرعة واحدة من اللقاح على الأقل.

في عام 2020، انكمش اقتصاد المنطقة بنحو 6.3%، لكن أداء بلدان أميركا اللاتينية كان هزيلًا بالفعل طول السنوات الخمس السابقة. وهي أيضًا بين أكثر بلدان العالم تفاوتًا، مما يخلق أرضًا خصبة مثالية لكل من فيروس كورونا 2019 وفيروس عدم الاستقرار السياسي.

بيد أنَّ الجبرية في النظر إلى أميركا اللاتينية مبدأ هَـدّام، لأنها تخفي عدم تجانس مجتمعات ومؤسسات المنطقة. لكننا من غير الممكن أن نتجاهل العوامل التاريخية والبنيوية وراء التحديث المتأخر في المنطقة، ولا ميلها نحو التقلبات الاجتماعية والسياسية، كما أثبت مسارها على مدار السنوات الثلاثين الأخيرة.

أدت الطفرة الديمقراطية في أميركا اللاتينية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، جنبًا إلى جنب مع ازدهار السلع الأساسية بعد عقد من الزمن، إلى توسع الطبقات المتوسطة في المنطقة وبدا الأمر وكأن هذا يشير إلى كسر دائرة التخلف الإنمائي. لكن نهاية ارتفاع أسعار السلع الأساسية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تسبب في محو قدر كبير من هذا التقدم الاقتصادي وتكدير مجتمعات المنطقة وسياساتها.

ما يثير القلق أنَّ الطبقات المتوسطة تخشى العودة إلى الفقر كما فقدت الثقة بالذات. وقد تسبب القلق الاقتصادي المتنامي في تآكل دعمها للمؤسسات الديمقراطية وتمهيد الأرض لإحياء النزعة الشعبوية على كل من اليمين واليسار. الآن أصبحت الحريات المدنية وسيادة القانون تحت التهديد، وبالتالي تعاني مكانة أميركا اللاتينية حتمًا.

في الوقت ذاته، تواصل الموارد المعدنية، والزراعية، وموارد الطاقة الوفيرة في أميركا اللاتينية اجتذاب انتباه القوى الكبرى في العالم، وينعكس هذا في تزايد التجارة والاستثمار والتعاون المالي في المنطقة مع الصين. ورغم أنَّ طفرة المواد الخام في العقد الأول من القرن الحالي كانت مدفوعة جزئيًّا أيضًا بالطلب الصيني، فإنَّ أميركا اللاتينية اليوم في وضع يجعلها أكثر تعرضًا واعتمادًا على الغير، ويتفاقم كل هذا بفعل الجائحة.

الواقع أنَّ مشكلات أميركا اللاتينية يجب أن يتصدى لها في المقام الأول قادتها. وتتمثّل الأولوية الأكثر إلحاحًا ــ بخلاف مكافحة كوفيد-19 ــ في الترويج لعقد اجتماعي جديد، والذي يجب أن يستهدف تضييق فجوات التفاوت وتحسين القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية، والتعليم، وغير ذلك من ركائز دولة الرفاهة. يجب أن تكون التغيرات عميقة بالقدر الكافي لإعادة الكرامة إلى السياسة، وبالتالي إحياء الدعم الشعبي للمؤسسات الديمقراطية.

لكنَّ القادة السياسيين لا يستطيعون الاضطلاع بهذه المهمة بمفردهم. ومن شأن تعزيز التعاون الأكثر مرونة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني أن يجعل من الممكن تعظيم الفرص التي يقدمها التحوُّل الرقمي وتوفير ضمانات أكثر قوة للمساعدة على إدارة تأثيره على أسواق العمل.

في الوقت ذاته، تُـحسِّن بلدان أميركا اللاتينية صُـنعًا بالتعجيل بتكاملها الإقليمي، والذي ظلَّ لفترة طويلة في ذيل قائمة الاهتمامات. ومن الممكن أن تساعد الحدود الجديدة للتكنولوجيا والاتصالات والتعليم على تعزيز العلاقات بين الأميركيتين، وفي المقام الأول فيما يتعلق بالتجارة (كما يطالب معظم المواطنين في مختلف أنحاء المنطقة).

من منظور أوسع، يجب اعتبار أميركا اللاتينية فاعلًا سياسيًّا واقتصاديًّا أساسيًّا، قادرًا على تغيير ميزان القوى العالمي. ومع وجود 40% من أنواع العالم، و30% من احتياطياته من المياه العذبة، و25% من غاباته، ينبغي للمنطقة أن تضطلع بدور حيوي في الكفاح المتعدد الأطراف ضد تغير المناخ. لكن هذا سيكون مستحيلًا ما دامت الجائحة تعمل على تقويض اقتصاداتها واستقرارها السياسي.

استجابت المنظمات الدولية لأزمة كوفيد-19 بتوفير المزيد من التمويل. لكن هذا يظل غير كافٍ للبلدان النامية، التي تحتاج إلى الوصول بقدر أكبر من المرونة إلى التمويل الطويل الأجل المنخفض التكلفة. تركز بعض المبادرات المطلوبة في اقتصادات أميركا اللاتينية وغيرها من الاقتصادات النامية على خلق السيولة اللازمة لتخفيف تأثير الجائحة على المستوى الاجتماعي ومساعدة الشركات التي بات بقاؤها مهددًا.

على نحو مماثل، ستستفيد أميركا اللاتينية وحلفاؤها التقليديون من ابتكار أشكال جديدة للتعاون. والولايات المتحدة مؤهلة بشكل خاص لمساعدة البلدان المجاورة لها، مثل تلك في أميركا الوسطى ومنطقة الكاريبي. كما تتسم الروابط بين أميركا اللاتينية وأوروبا، الإرث الذي خلفه الاستعمار والهجرات اللاحقة، بقدر كبير من القوة.

لكن يتعين على أوروبا أن تمدَّ يدها بشكل أكثر حسمًا إلى أميركا اللاتينية. إلى جانب التقارب الثقافي، فإنَّ تقارب المصالح ــ مثل كبح جماح الجائحة، وتخفيف تغير المناخ، وتعزيز الرخاء الاقتصادي، وتكميل نفوذ قوى أخرى ــ يجعل المشاركة الأكبر ضرورة جيوستراتيجية حتمية. وسوف يمثل إبرام اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وكتلة ميركوسور في أميركا اللاتينية (الأرجنتين، والبرازيل، وباراجواي، وأوروجواي) تقدمًا ملموسًا وبالغ الأهمية.

عندما تسلم الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز جائزة نوبل في الأدب عام 1992، ألقى محاضرة بعنوان "عزلة أميركا اللاتينية". قال: "إنَّ أولئك الأوربيين من ذوي الرؤية الواضحة الذين يناضلون، هنا أيضًا، من أجل وطن أكثر عدلًا وإنسانية، يمكنهم مساعدتنا بشكل أفضل كثيرا إذا أعادوا النظر في رؤيتهم لنا". ففي نهاية المطاف "لن يجعلنا التضامن مع أحلامنا نشعر بأننا أصبحنا أقل وحدة وانعزالًا، طالما لم تُـتَـرجَم هذه الأحلام إلى أعمال ملموسة من الدعم المشروع لكل الشعوب التي تفترض واهمة أنها قادرة على ممارسة حياة خاصة بها في توزيع العالم".

في هذه الأوقات من المصاعب والمحن المشتركة ــ وإن لم تكن موزعة بالتساوي ــ تتحدانا كلمات جارسيا ماركيز الحكيمة جميعا، الأوروبيين وغير الأوروبيين على حد سواء. ويجب أن تطبع الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والسياسية رسالتين في أذهاننا: لا أحد في مأمن من التهديدات العالمية، ولا ينبغي لأحد أن يُـتـرَك في مواجهتها بمفرده.

ترجمة: إبراهيم محمد علي            Translated by: Ibrahim M. Ali

خافيير سولانا الممثل الأعلى الأسبق للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، وأمين عام منظمة حلف شمال الأطلسي ووزير خارجية إسبانيا سابقًا. يشغل حاليًّا منصب رئيس EsadeGeo ــ مركز أبحاث الاقتصاد العالمي والدراسات الجيوسياسية. وهو زميل متميز لدى مؤسَّسة بروكنجز. إنريكي إجليسياس رئيس بنك التنمية للبلدان الأميركية سابقًا.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.
www.project-syndicate.org