محاولة فهم خطة الصين الجديدة

أندرو شنج ؛ شياو قنج

هونج كونج ــ يعكف قادة الصين حالياً على وضع اللمسات الأخيرة على الخطة الخمسية الرابعة عشرة، والتي ستغطي الفترة من 2021 إلى 2025. لكن أحد جوانب الخطة ــ ما يسمى استراتيجية الانتشار المزدوج ــ بدأ يجذب انتباه العالم بالفعل. يخشى كثيرون أنَّ الصين بدأت "تتحول إلى الداخل" في وقت حيث يحدق الاقتصاد العالمي في برميل بارود الركود. بيد أن هذه المخاوف ليست في محلها.

وفقاً للرئيس شي جين بينج، تعني استراتيجية الانتشار المزدوج أنَّ الصين ستعتمد بشكل أساسي على "الانتشار الداخلي" ــ الدورة المحلية للإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك ــ فيما يتصل بالتنمية الطويلة الأمد. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تقليل اعتماد الصين على الأسواق والتكنولوجيا الخارجية.

لكن هذا لا يعني أنَّ الصين تنسحب من العالم. لفهم ما يعنيه ذلك، يتعيَّن علينا أولاً أن نفهم كيف يفكر صنّاع السياسات في الصين في مسار التنمية الطويل الأمد في البلاد.

على النقيض من القادة الغربيين، الذين يحملون عادة شهادات في القانون أو الاقتصاد، فإنَّ صنّاع السياسات في الصين علماء أو مهندسون في الأغلب الأعم. وهم من المرجح نتيجة لهذا أن يفكروا على نحو جهازي شامل. الواقع أنَّ الخطط الخمسية في الصين تعج بالمصطلحات الهندسية والجهازية، مثل "التصميم المعماري من أعلى إلى أسفل"، والشبكات، والمنصات، والعمليات. ويعني هذا النهج أنَّ صنّاع السياسات في الصين ينظرون إلى ما هو أبعد من نماذج الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي السائدة لكي يضعوا في الحسبان اعتبارات فوقية ووسطية أيضاً.

على المستوى الفوقي، يتعامل صنّاع السياسات الصينيون مع ما أسماه أبو البرنامج النووي في الصين، تشيان شيويه سن، "نظام عملاق معقد مفتوح". كما لاحظ تشيان وزملاؤه فإنَّ المرء لا يستطيع أن يتوقَّع إدارة مثل هذا النظام باستخدام "العلم الدقيق"، بكل ما ينطوي عليه من اختزالية. بدلاً من ذلك، ينبغي لهم أن ينخرطوا في "الهندسة التخليقية الفوقية من النوعية إلى الكمية" ــ هذا يعني عملية تحليل نوعي يتبعها اختبار شديد الدقة ضد الحقائق التجريبية.

لخص دنج شياو بينج هذا النهج ببديهته، "عبور النهر من خلال تحسُّس الصخور". بعد عقود من الزمن، أخذ روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل هذا المفهوم إلى أبعاد أعمق، موضحاً كيف تؤثر العوامل النوعية، مثل القصص الشعبية، في الأنظمة المعقدة، وهي بالتالي تشكل ضرورة أساسية لتمكيننا من شرح النتائج بدقة.

على المستوى الوسطي أو المؤسسي، تطورت استراتيجية الانتشار المزدوج من نموذج "الاقتصاد الدائري" ــ وهو نهج جهازي للتقليل من الاستهلاك والهدر، وبالتالي تمكين عملية تجديد الموارد الطبيعية. ينبني نموذج الانتشار المزدوج على إدراك مستمد من عقود من تصنيع السلع العالمية مفاده أنَّ سلاسل التوريد تعمل من خلال عمليات الإنتاج والتوزيع والإبداع الدورية التي يجري تنسيقها وضبط تزامنها باطنياً.

عندما لا تتوافق هذه العمليات والدورات وحلقات التغذية الراجعة بشكل جيد مع سياسات وإجراءات الحكومة ــ ولنقل لأنَّ الضرائب أو الحواجز البيروقراطية مرتفعة إلى حد أعلى مما ينبغي ــ تتوقَّف سلاسل التوريد. وتهدف استراتيجية الانتشار المزدوج إلى تجنُّب مثل هذه العوائق من خلال تطبيق أساليب مؤسسية وبنيوية مرنة وقابلة للتكييف.

والتركيز على الأنظمة الداخلية أمرٌّ بالغ الأهمية لتحقيق هذا الهدف، وخاصة بسبب زيادة ارتباكات الاقتصاد الكلي. بادئ ذي بدء، سلطت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) الضوء على مدى ضعف سلاسل التوريد العالمية "الدقيقة التوقيت" في مواجهة الارتباكات، مما أدى إلى زيادة الدعوات المطالبة بإزالة العولمة.

في الوقت ذاته، تتصاعد التوترات مع الولايات المتحدة ــ الشريك التجاري الأكبر للصين ــ ويتجلى هذا في التحركات الأخيرة من قِـبَـل إدارة الرئيس دونالد ترامب لتعطيل محاولات تشغيل تطبيقات الهاتف المحمول الصينية WeChat، وTikTok، في الولايات المتحدة. والآن يبدو الانفصال الاقتصادي أكثر ترجيحاً من أي وقت مضى.

تشكِّل استراتيجية الانتشار المزدوج في الصين استجابة عملية للضغوط الداخلية والخارجية السريعة التغير التي تواجهها البلاد. يتلخص هدف صنّاع السياسات في تعزيز سلسلة التوريد ومرونة السوق من خلال الاستفادة من عدد سكان الصين الهائل (1.4 مليار نسمة) ــ بما في ذلك 400 مليون مستهلك من الطبقة المتوسطة.

يقودنا هذا إلى اعتبارات المستوى الجزئي. نظراً لنظام الجدارة المعمول به في الصين، لا يصل المرء في عموم الأمر إلى أعلى مستويات صنع السياسات إلا بعد العمل على "الخطوط الأمامية" في عملية التنمية: الإدارة المباشرة لتشييد البنية الأساسية المادية والاجتماعية في القرى، والمدن، والأقاليم. ويغرس هذا في القادة الصينيين الوعي باحتياجات الناس وديناميكيات الهندسة الاجتماعية والاقتصادية التي لا تتبدد أبداً.

اليوم، تكافح أغلب الشركات الصينية، وكذا الحكومات المحلية، للتكيف مع ظروف السوق المحلية والدولية السريعة التغير. وسوف تساعد استراتيجية الانتشار المزدوج من خلال إنشاء أسواق وطنية أكثر حرية وتوحداً لرأس المال المادي والمالي والبشري، والمنتجات والخدمات، والتكنولوجيا، والمعلومات. وسوف تضمن أيضاً أن يعرف أصحاب المصلحة في النظام ماذا ينبغي لهم أن يتوقعوا.

لكن تعزيز دورات الإنتاج والاستهلاك الداخلية لا يعني تدمير شبكات التجارة الخارجية، والاستثمار، والسياحة، والتعليم؛ على العكس من ذلك، تستعد الصين لمواصلة فتح اقتصادها، وخاصة سوقها المالية. بدلاً من ذلك، يعني الانتشار المزدوج توسيع وتعميق التبادلات الخارجية بطرق تعمل على تكميل الاقتصاد المحلي.

إذا كانت بقية بلدان العالم راغبة بالتعاون على هذا النحو ــ ولنقل في تطوير المنتجات والخدمات الخضراء ــ فسوف تلتزم الصين. وإذا لم تفعل، فسوف تعتمد الصين على مواطن قوتها الهائلة، من قاعدة المستهلكين الضخمة إلى القدرات الإبداعية السريعة النمو، للحفاظ على نموها وتطورها. الأمر ببساطة، إذا لم يكن العالم مستعداً للتعاون، فسوف تتكيف الصين مع الاستقطاب.

مِن "صُـنِع في الصين 2025" إلى مبادرة الحزام والطريق، أساء العالم في كثير من الأحيان تفسير السياسات والمشاريع الصينية العملية أو الاستراتيجية على أنها مخططات مراوِغة أو مدمرة. لكن الصين لا تستطيع التحكُّم في كيفية تفسير الآخرين لتصرفاتها، وهي لن تغيِّر سياساتها لإرضاء منتقديها. ومع استعداد الصين لأن تكون الاقتصاد الرئيس الوحيد الذي يسجل نموا إيجابياً في عام 2020 ثمَّ في عام 2021، وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي، فلا يوجد من الأسباب ما قد يحملها على تغيير سياساتها.

ترجمة: مايسة كامل          Translated by: Maysa Kamel

أندرو شنج زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونج كونج، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام. شياو قنج رئيس مؤسسة هونج كونج للتمويل الدولي، وهو أستاذ ومدير معهد أبحاث طريق الحرير البحري في كلية إتش إس بي سي لإدارة الأعمال في جامعة بكين.

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.
www.project-syndicate.org