بريطانيا وإدارة السياسة النقدية
أندريس فيلاسكو
في أوائل الثمانينيات، بينما كنت أدرُس في الجامعة بالولايات المتحدة، تعلمتُ نموذج ماندل – فليمنج للاقتصاد الكلي، والذي يتوقع ارتفاع سعر صرف العملة استجابةً للزيادة في عجز ميزانية الدولة المُصدرة. كان رد فعل الطلاب الآسيويين والأفارقة والأمريكيين اللاتينيين والأوروبيين الجنوبيين في الفصل منسجماً، مُشيرين إلى أن الأمر ليس كذلك: أي تاجر عاقل سيتخلص من عملة بلد توشك حكومته على الاقتراض بشكل مُفرط.
تذكرتُ تلك المناقشة عندما شهدت بلوغ الجنيه الإسترليني أدنى مستوى له على الإطلاق مقابل الدولار، رداً على التخفيضات الضريبية غير الممولة وزيادة الإنفاق التي أعلنتها حكومة رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس. اعتادت المملكة المتحدة أن تكون من بين البلدان الغنية والمتطورة للغاية، حيث تم تطبيق توقعات ماركوس فليمنج (بريطاني) وروبرت ماندل، لا أكثر.
عندما كنتُ في الكلية، واجهتُ صعوبة في فهم سبب عدم تطبيق النموذج الذي يوصف غالباً بأنه «العامل الفعال» في الاقتصاد الكلي على الأسواق الناشئة، لكن الإجابة واضحة للغاية. يُركز الاقتصاد الكلي في البلدان المتقدمة في الأساس على الحاضر، لأنه ليس من الضروري القلق بشأن المستقبل. وفي أوائل الستينيات، كان من المفترض أن تُسدد الاقتصادات المتقدمة ديونها، أو على الأقل لن تعتمد على التضخم لتقويض قيمة ديونها. على ما يبدو، لم يعد هذا هو الحال.
في النهاية، يُعد الرهان على العملة بمثابة رهان على قوة المؤسسات السياسية التي تدعمها. هل نستنتج أن الأسواق لم تعد تؤمن بالقوة والسلامة الأساسية للمؤسسات البريطانية؟
لا ينبغي للمرء أن يبالغ في هذا الأمر. في الأسواق الناشئة، تُعد مخاطر التخلف عن السداد هي القضية الأساسية، ولا يعتقد حتى التاجر الأكثر ذعراً أنه قريباً ستعلن حكومة جلالة الملك رسمياً أنها لا تستطيع سداد ديونها. تظل بريطانيا دولة تتمتع بمؤسسات هائلة. وقد ذكر بيان القصر نفسه الذي أبلغ العالم بوفاة الملكة أن الملك وزوجته سيعودان إلى لندن في اليوم التالي. وكان الانتقال من بوريس جونسون إلى ليز تراس سريعاً تقريباً. وانتقلت السلطة الملكية والديمقراطية بسرعة وسلاسة، بينما نزل المواطنون إلى الشوارع للتعبير عن حزنهم وتقديرهم.
ومع ذلك، حتى البلدان التي تتمتع بمؤسسات قوية تواجه قيوداً مالية.
إذا لم يكن التخلف عن السداد أو التضخم المرتفع المستمر خياراً محتملاً، فما الذي قد يُسبب مشكلة؟ يمكن أن تسوء الكثير من الأمور - والأسواق تُدرك ذلك.
بداية، يمكن أن يؤدي العجز والتقلب المستمر في أسعار السندات إلى انهيار النظام المالي، والذي يعتمد على عائدات السندات الحكومية. في مواجهة مثل هذا الوضع، لا يمكن لمحافظي البنوك المركزية تجاهل الأمر، كما أشارت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد في عام 2020 عندما صرحت أن وظيفتها لا تتمثل في «سد الفجوة» بين عائدات السندات الإيطالية والألمانية. لكن بعد أن تعرضت السوق الإيطالية لمزيد من الأزمات، اضطرت إلى التراجع عن هذا التعليق.
من الممكن أيضاً تخيل وضع تبدأ فيه الاستدامة المالية في تقييد قدرة السلطة النقدية على تحديد أسعار الفائدة.
وهناك قضية شائكة تتعلق بمدى استمرار الجنيه كأداة استثمارية رئيسية. من المؤكد أن مديري الأصول في شركة تأمين أو صندوق ثروة سيادي في شرق آسيا أو الشرق الأوسط سيحتفظون بجزء كبير من محافظهم المالية المقومة بالدولار أو اليورو. ليس من الضروري أن يحتفظوا بعملة بلد يبلغ عدد سكانه 68 مليون نسمة، ويشكل ناتجه الاقتصادي حصة صغيرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
حتى لو لم يتحقق هذا السيناريو القاتم، فإن السياسة المالية المتساهلة للغاية يمكن أن تخلق الكثير من المتاعب. فقد ارتفعت أسعار الاستهلاك في المملكة المتحدة بنحو 10 % خلال العام الماضي.. كلما زاد العجز المالي، زادت الحاجة لارتفاع معدلات الفائدة لإبقاء التضخم تحت السيطرة.
وفي أوائل الثمانينيات، أوضح أستاذي أنه حسب نموذج ماندل فليمنج، يؤدي ارتفاع الاقتراض الحكومي إلى رفع أسعار الفائدة المحلية، مما يؤدي بدوره إلى زيادة تدفق رأس المال، وبالتالي يتسبب في ارتفاع قيمة العملة. إذا كانت معدلات الفائدة في المملكة المتحدة أعلى مما هي عليه في الولايات المتحدة أو منطقة اليورو، فإن «الميزانية المصغرة» القصوى التي أعلنها المستشار كواسي كوارتنج قد تُخلف هذا التأثير على الجنيه الإسترليني في نهاية المطاف. لكن هذه نعمة محفوفة بالمخاطر: إن الأخبار السارة للمستوردين البريطانيين والبريطانيين الذين يقضون إجازة في الخارج ستكون سيئة بالنسبة للمصدرين البريطانيين، والوظائف، والنمو الاقتصادي.
لا تكمن مشكلة العجز المالي الضخم والدين العام المرتفع في أنهما يدينان حتماً الجنيه باعتباره ضعيفاً أو قوياً. تكمن المشكلة في أنها تزيل درجات الحرية من إدارة السياسة النقدية، وتخلق حالة من عدم اليقين تمتد في كثير من الأحيان إلى الأسواق المالية الخاصة، وتجعل من الصعب إدارة مقايضة التضخم والبطالة، ويمكن أن تعوق النمو طويل الأجل.
هذه هي المعضلة الكلاسيكية التي تواجه الأسواق بغالبيتها، حيث من غير المعتاد أن تعمل السياسات المالية والنقدية على تحقيق أغراض متعارضة. لا شك أن المملكة المتحدة قادرة على النهوض النوعي، ولكن لا بد من برامج دقيقة مدروسة بالخصوص.
* المرشح الرئاسي السابق ووزير المالية في تشيلي، وعميد كلية السياسة العامة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية